بعد أن بات دونالد ترامب يحمل صفة الرئيس الأمريكي السابق رسمياً، هناك تساؤلات كثيرة حول مصيره السياسي، وهل يرضح نفسه مجدداً لانتخابات الرئاسية عام 2024 أم ستتم عرقلته قانونياً وبشكل مبكر من جانب الكونجرس من خلال إدانته بتهمة التحريض في واقعة الاعتداء على مبنى "الكابيتول" في السادس من يناير الجاري؟ وهل سيعود ترامب إلى أسواق المال والعقارات أم سيبقى رقماً صعباً في المشهد السياسي الأمريكي؟!
بالطبع لا أحد يستطيع التنبؤ بسلوكيات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، هكذا كان في السلطة وهكذا سيببقى بعد مغادرته منصبه، ولكن المؤكد أن صفحته لن تطوى بسهولة، وقد لا تطوى أبداً، أو على الأقل خلال المدى المنظور، فترامب قد استطاع أن يربك مسيرة الديمقراطية الأمريكية، بل ويترك عليها "ندوب" لن تمحى بسهولة، ويكفي أنه سجّل واقعة لم تحدث منذ نحو 150 عاماً في التاريخ الأمريكي عندما رفض المشاركة في مراسم انتقال السلطة رسمياً للرئيس الجديد!
أصر ترامب على ابقاء مشهد الانقسام الأمريكي قائماً حتى الآن، وهو انقسام اعترف به الرئيس بايدن وسعي في خطابه الأول عقب التنصيب مباشرة إلى تهيئة الأجواء وتضميد الجراح، ولكن الأمر لن يكون بالسهولة التي يتخيلها البعض، فالولايات المتحدة التي تركها ترامب غير تلك التي يعرفها الجميع، فالكثير من المتخصصين والباحثين يتحدثون عن عواقب الانعزالية الأمريكية ونهج الرئيس ترامب على القيادة الأمريكية للنظام العالمي، ويذهب البعض في ذلك إلى حد الاشارة إلى وجود مؤشرات تآكل للامبراطورية الأمريكية على غرار ماحدث للاتحاد السوفيتي السابق!
الحقيقة أن مايهمني في كل ما صدر عن الرئيس السابق دونالد ترامب خلال أيامه الأخيرة في البيت الأبيض هو وعده في خطاب الوداع ـ إن صح التعبير ـ بالعودة إلى السلطة بطريقة أو بأخرى، وهو حديث يجب ان يؤخذ على محمل الجد لأن الأمر ليس كما يتصور البعض من أنها عبارات لحفظ ماء الوجه وصون الكرامة والكبرياء في ظل الطريقة التي اختار أن يخرج بها من المشهد وحيداً معزولاً حتى من دون أفراد طاقمه الرئاسي المٌقربين، ولا لأن ترامب اعتاد كثرة الوعود والتهديد والوعيد من دون فعل!
ما يهمني في هذا التصريح أن ترامب يعتزم البقاء في المشهد السياسي الأمريكي، وبغض النظر عن فرص تحقق ما يتمناه وارتباط ذلك ارتباطاً وثيقاً بخطوات الكونجرس المقبلة حياله، فإن مجرد نواياه كفيل باستمرار الانقسام وتعقد جهود ترميم الصدع المجتمعي ووضع العراقيل في طريقها، لاسيما أن ترامب الذي يدغدغ مشاعر ناخبيه، الذين صوتوا لمصلحته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والذين يبلغ عددهم نحو 74 مليون ناخب، يمثلون شريحة كبيرة للغاية من ناخبي الحزب الجمهوري، يراهن على جلب كل هؤلاء إلى حزب سياسي جديد يعتزم تأسيسه ينطلق من شعاراته القومية وأفكاره التي يتهمها الكثيرون بتأجيج العنصرية وكراهية الأجانب وتفوق العرق الأبيض، فضلا ً عن نيته تأسيس منصة إعلامية تنطق باسم هذا التيار وتروج لأفكاره وتدافع عنها.
الإشكالية الأهم ـ برأيي ـ بقاء ترامب في المشهد السياسي الأمريكي سيكون معضلة صعبة للجمهوريين تحديداً لأن هذا الحزب سيأتي خصماً من الرصيد الشعبي للحزب الجمهوري، وسينشط في المناطق التي يسيطر عليها الجمهوريين تقليدياً، خصوصاً أن ترامب لا يزال بنظر الكثير من ناخبيه ضحية للمزاعم التي يرددها حول "سرقة" الانتخابات وغير ذلك من أفكار كان صمت الجمهوريين حيالها جزءاً أساسياً من انتشارها! وعلينا أن نتذكر جيداً نتائج بعض استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن نحو 50% من الناخبين الجمهوريين يؤمنون بمزاعم ترامب بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأن غالبية هؤلاء قد أيدوا الاعتداء على مبنى الكونجرس رمز الديمقراطية الأمريكية، وأن أكثر من نصف هؤلاء الناخبين يؤيدون رغبة ترامب في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة 2024، حيث أظهر استطلاع أجرته رويترز/إبسوس بعد حصار مبنى "الكابيتول" مباشرة أن 70 في المئة من الجمهوريين ما زالوا موالين لترامب.
قناعتي أن وجود ترامب في المشهد السياسي الأمريكي يقوي شوكة اليمين المتطرف، وقد يعرقل مهمة الرئيس بايدن في تنفيذ أجندته السياسية الداخلية، واعتقد أن وجوده خارج منصبه الرئاسي يمنحه فرصة كبيرة للانتشار إعلامياً والتحرر من قيود المنصب بشكل يرفع سقف نزعاته اليمينية ويفاقم الانقسام المجتمعي، بحيث يبقى ترامب الرقم الأصعب في الساحة السياسية الأمريكية إلا إذا دعم مجلس الشيوخ الأمريكي قرار إدانته بالتحريض على اقتحام مبنى "الكابيتول"، ومن ثم إسدال الستار على مستقبله السياسي، وحتى في هذه الحالة ستبقى الحالة الترامبية ملازمة لملايين الأمريكيين، وللكثير من الساسة، الذين سيظهر من بينهم من يسعى لأن يمسك بعصا قيادة هذا التيار بدلاً من ترامب، بمعنى أن الترامبية ستبقى حتى ولو من دون ترامب، لأن الظروف التي نجح الرئيس السابق في توظيفها للفوز بانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016 لا تزال قائمة، حيث خاص ترامب حملته وقتذاك كشخص لا يمتلك خلفية سياسية ولا ينتمي للأحزاب القائمة، ولكنه فقط يخاطب من فقدوا الثقة في الأحزاب والسياسيين التقليديين، ويريدون من يعبر عن طموحاتهم، وهذه الشريحة من الناخبين هي الداعم الأساسي لترامب حتى الآن.