لأن الأساس في العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة هو الشراكة الاستراتيجية، ولأن المصالح المتبادلة هي الركيزة الأساسية لهذه الشراكة، فإن من الطبيعي أن تشهد هذه العلاقات وقفات ومراجعات وتقييمات مع وصول كل إدارة أمريكية جديدة إلى السلطة، فالأمر كله يتعلق بوجود رئيس جديد في البيت الأبيض، ومن البديهي أن يعيد دراسة علاقات بلاده مع الشركاء المؤثرين في مصالحها الاستراتيجية بدرجة كبيرة.
في هذا الإطار يمكن فهم ما يدور في العلن أو حتى وراء الكواليس في العلاقات السعودية ـ الأمريكية، والأهم بالنسبة لنا ـ كباحثين ومراقبين ـ أن الولايات المتحدة أكدت التزامها ـ كشريك استراتيجي ـ بأمن الحليف السعودي، كما أكد البيت الأبيض عزمه مساعدة المملكة في تلبية احتياجات الدفاع عن النفس في مواجهة أي تهديدات خارجية، وشددت وزارة الخارجية الأمريكية على أن الولايات المتحدة ستتعاون مع المملكة العربية السعودية حيث تتلاقى مصالح البلدين، وهذه النقاط هي باختصار محور وجوهر أي شراكة قوية وجادة بين أي حليفين أو شريكين استراتيجيين، وعدا ذلك يبقى في إطار تكتيكات أو أنماط إدارة العلاقات ويصعب أن يؤثر سلباً في مسار هذه الشراكة.
بمعنى آخر، يمكن القول أن ما يحدث بين الشريكين هو تغيير تكتيكي في إدارة العلاقات، وليس في أهدافها الاستراتيجية التي لم تُناقش من الأساس، وهذا ماقصدته المتحدثة باسم البيت الأبيض حينما تحدثت عن "إعادة ضبط العلاقات" بين البلدين، ضمن إشارتها للعودة إلى الإجراء البروتوكولي المعتاد في تبادل الاتصالات على مستوى بروتوكولي تقليدي بخلاف الإدارة السابقة التي كانت لا تميل إلى القنوات الدبلوماسية الصارمة في التعامل مع الحلفاء، ولذا اعتقد أن كل هذا الجدل والضجيج الاعلامي هو خير دليل على مكانة المملكة وثقلها الاستراتيجي وليس مؤشراً على حدوث تحول في مجرى العلاقات السعودية ـ الأمريكية.
الواضح للجميع أن إدارة الرئيس بايدن تنحو في سياستها الخارجية بشكل وأسلوب مغاير تماماً للإدارة السابقة، والتغيير في هذا الشأن يشمل كل الملفات، ويبقى الأهم في هذا الشأن هو مدى حدوث تغيير جوهري في مقاربة كل ملف على حدة، لاسيما أنه ليس هناك ـ حتى الآن ـ مايشير إلى خطوات سلبية لإدارة الرئيس بايدن تجاه الشريك السعودي، بل العكس تماماً، فالأمور تمضي بشكل أفضل مما كان متوقعاً، وهناك حرص مشترك على الاحترام المتبادل ومواصلة التعاون لاسيما أن هناك ملفات ذات أولوية استثنائية ضمن اهتمامات الإدارة الأمريكية الجديدة، وتحتاج فيها إلى تعاون ودعم المملكة العربية السعودية، كما هو الحال في اليمن، وهنا تجب الاشارة إلى الاتصال الهاتفي الذي تم بين وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حيث جدد الوزير الأمريكي التأكيد على الشراكة الدفاعية بين واشنطن والرياض، وقدم الشكر للمملكة على التزامها بالحل السياسي في اليمن.
والحقيقة أن أي تحليل موضوعي للمعطيات والثوابت التي تنطلق منها علاقات الشراكة السعودية ـ الأمريكية، تؤكد أن التحالف الاستراتيجي القائم بين البلدين يتواصل رغم التكهنات القائلة بحدوث تغيير كلي أو جزئي في طبيعة هذا التحالف، فالتاريخ يقول أن هذه العلاقات قد شهدت اختبارات مصيرية في غاية الصعوبة، ونجحت في كل مرة في تجاوزها ومواصلة التحالف بشكل أقوى وأكثر ثباتاً.
وقناعتي التي تحدثت عنها في مقالات سابقة أن الرئيس بايدن يسعى إلى وضع بصمته الشخصية على جميع ملفات السياسة الخارجية الأمريكية، ومن بينها علاقات التحالف مع المملكة العربية السعودية، وعلينا هنا أن نتذكر كيف استغرق اتصال الرئيس بايدن مع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل ـ الحليف الأقرب والأكثر موثوقية وتأثيراً وارتباطاً بالمصالح والداخل الأمريكي ـ أكثر من شهر كامل لإتمام هذا الاتصال الذي استغرق ساعة كاملة وكشف عن بعض دوافع إرجاء هذا الاتصال البروتوكولي. وبالتالي فإن البصمة التي يسعى إليها بايدن تنطلق من مخزون خبرات كبير بالعلاقات الدولية ودوافع أخرى لا علاقة لها بالحديث عن رغبة في تقويض العلاقات مع الشركاء والحلفاء أو التأثير فيها سلباً لسبب بسيط هو أن بايدن الذي يرفع شعار "أمريكا عادت" لا يمكن له أن يضحي بمصالح استراتيجية وهو ما يسعى للحوار وفتح صفحة جديدة مع خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها الاستراتيجيين بل مع أعدائها مثل إيران، والسعودية هنا ليست فقط شريكاً استراتيجياً تاريخياً مهماً للولايات المتحدة، بل هي أيضاً قوة اقليمية كبرى عضو بمجموعة العشرين وتمتلك الثقل الأكبر في تكتلات ذات تأثير بالغ في الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، مثل منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك"، ومجموعة الدول العربية والاسلامية، ناهيك غن نفوذها الروحي لدى نحو ملياري مسلم، والذي تستمده من وجود الأماكن الاسلامية المقدسة بالمملكة، ومن الصعب للغاية على إدارة بايدن أن تستهل ولايتها بالسقوط في فخ خلاف مع شريك وحليف تاريخي بحجم ومكانة وتاثير المملكة.
العلاقات السعودية ـ الأمريكية هي علاقات استراتيجية متنامية ولكنها شراكة صعبة بحكم اعتبارات عديدة شأنها في ذلك شأن الشراكات القائمة بين مختلف الأنداد والشركاء في العلاقات الدولية، ولكن الخبرات التاريخية المتراكمة لدى الطرفين تؤهلهما للمضي قدماً والتغلب على أي تحديات من دون أي تغيير يذكر في المسار الاستراتيجي.