تزايد الحديث في الآونة الأخيرة بين المحللين عن ملامح حرب باردة جديدة تلوح في أفق العلاقات الروسية ـ الأمريكية، وذلك على خلفية التوتر الحاصل في علاقات الجانبين؛ وأحدث حلقات هذا التوتر تمثلت في الطرد المتبادل للدبلوماسيين، الأمريكيين والروس، حيث قامت الخارجية الروسية بتسليم مذكرة لمسؤول كبير بالسفارة الأمريكية تفيد بأن عشرة من الدبلوماسيين الأمريكيين "غير مرغوب فيهم"، وأنه يتعين عليهم مغادرة الأراضي الروسية قبل 21 مايو المقبل، وقالت موسكو إن "هذا الإجراء يشكّل رداً طبقاً لمبدأ التعامل بالمثل، على الأعمال العدائية للجانب الأميركي بحق عدد من موظفي السفارة الروسية في واشنطن والقنصلية العامة الروسية في نيويورك"، محذرة من أن "خطوات أخرى ستتبع".
المعروف أن هذه التوترات في جانبها الأوروبي تأتي في معظمها على خلفية الملف الأوكراني، حيث تتهم الدول الغربية روسيا بحشد عشرات الآلاف من الجنود قرب أوكرانيا وسط قلق أوروبي من غزو روسي لهذا البلد، الذي يشهد توتراً مستمراً منذ اعلان روسيا عن ضم شبه جزيرة القرم في 2014، في خطوة أدت إلى تدهور العلاقات بين روسيا والغرب إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب الباردة.
الواقع يقول أن المؤشر الأبرز على توتر العلاقات الروسية الغربية قد ظهر عقب إعلان الولايات المتحدة في منتصف ابريل الجاري عن سلسلة عقوبات استهدفت روسيا، وتشمل طرد عشرة دبلوماسيين روس وحظرت على شركاتها الشراء المباشر لسندات الدين الروسية الصادرة عن البنك المركزي، أو صندوق الثروة الوطني، أو وزارة المالية الروسية، ناهيك عن عقوبات طالت نحو 17 مسؤولاً روسيا من الدائرة المقربة من الرئيس بوتين، وردت موسكو من جانبها بالاعلان عن طرد عشرة دبلوماسيين ومنع مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى من دخول أراضيها، وتقديم نصيحة للسفير الأمريكية بالمغادرة لإجراء مشاورات جدية في بلاده. وتزامن هذا التوتر الذي جاء على خلفية اتهامات لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 والتجسس وتنفيذ هجمات الكترونية، مع اتهامات بريطانية لروسيا أيضاً بالضلوع في "اختراقات سيبرانية والتدخل في العمليات الديمقراطية، وحشد القوات العسكرية بالقرب من الحدود الأوكرانية وفي شبه جزيرة القرم التي تم ضمها بشكل غير قانوني".
الطرد المتبادل للدبلوماسيين ليس مسألة طارئة ولا عابرة في قاموس العلاقات الروسية الغربية في السنوات الأخيرة، ففي مارس عام 2018، قامت الولايات المتحدة وكندا ونحو عشرين دولة أوروبية بطردعشرات الدبلوماسيين الروس، على خلفية قضية تسميم العميل المزدوج، سيرغي سكريبال، وابنته في بريطانيا، وقيل أن عدد الدبلوماسيين الروس الذين قامت هذه الدول بطردهم بلغ نحو مائة دبلوماسي، ومع ذلك استمرت العلاقات وتواصل الحوار، وهدأت الأجواء قليلاً في ظل أزمة تفشي جائجة "كورونا"، حيث انقسمت المواقف الأوروبية حول التعاون مع موسكو والاستعانة بلقاح "سبوتنيك V" الروسي في مواجهة تفشي الوباء في الدول الأوروبية، حتى أن ألمانيا دعت للاستعانة باللقاح الروسي، وأعلنت المستشارة أنغيلا ميركل أن ألمانيا قد تبدأ شراء "سبوتنيك V" بشكل مستقل في حال رفض الاتحاد الأوروبي التوجه إلى موسكو بطلب مشترك لتوريد اللقاح إلى الدول الأعضاء، بينما اعترضت فرنسا بشدة على ذلك، وأبدت النمسا اهتماماً بانتاجه لديها، ماكشف عن انقسام أوروبي حاد في توقيت كانت تناقش فيه العواصم الأوروبية فرض عقوبات ضد موسكو على خلفية سجن المعارض الروسي اليكسي نافالني، الذي كان قد تلقى العلاج في ألمانيا عقب محاولة تسميم ينسب المسؤولية عنها إلى روسيا، وتم القبض عليه فور عودته لبلاده وحكم عليه بالسجن سنتين وثمانية اشهر مع النفاذ، وهو حكم قوبل باستنكار غربي حاد ودعوات للإفراج الفوري عنه.
الاشارة الأهم للتوتر الجديد جاءت على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي حذر الغرب من تجاوز "الخطوط الحمراء" لروسيا، مؤكداً أنه بلاده سترد سريعاً وبقسوة على أي استفزازات أجنبية ستجعل من يقدمون عليها يندمون على أفعالهم.
ويبدو أن الرئيس بوتين قد شعر بالاستفزاز جراء عمليات الطرد المستمرة للدبلوماسيين الروس، لاسيما أن الأمر لم يقتصر على الولايات المتحدة، بل شمل جمهورية التشيك التي قررت مؤخراً أيضاً طرد 18 دبلوماسياً روسيا بتهمة التجسس، لذا فقد تحدث عن تحدث في خطاب له مؤخراً عن "خطوط حمراء" سيضعها في كل ملف على حدة، حيث يقول محللين روس أن دول "أوروبا الجديدة"ويقصدون بذلك دول أوروبا الشرقية سابقاً، والتي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي تقوم بدور "حصان طراودة" الأمريكي من أجل عزل روسيا، وإحراق جسور العلاقات بينها وبين الاتحاد، ولكن الشواهد تؤكد أن هناك توترات متزايدة بين موسكو وعواصم أوروبا القديمة وفي مقدمتها باريس ولندن، ما يؤكد وجود صراع خفي بين الغرب وروسيا، ظاهره السياسات والاتهامات المعلنة، وباطنه التنافس على النفوذ والهيمنة الدولية، حيث تضغط دول أوروبية عدة، من أجل أن تتخلى برلين عن خط أنابيب الغاز نوردستريم-2 المثير للجدل والذي كانت الولايات المتحدة وحلفاء آخرون انتقدوه لأنّه يؤدي إلى "الاعتماد بشكل أكبر" على الغاز الروسي، بينما تتحدث ميركل دائماً عن علاقة براجمانية تربطها بالجانب الروسي، وترى أنه رغم الخلافات السياسية "الكبيرة"، يمكن العمل معاً ولو في نطاق انساني لمواجهة تفشي وباء كورونا.
الحقيقة أن ما يدور في فضاء العلاقات الروسية ـ الغربية ليس حرباً باردة بالمفهوم التقليدي القديم، الذي ساد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، والذي كان يتجلى في مظاهر وممارسات معينة، قد لا تناسب الصراع الجديد بين روسيا والغرب، فالمصطلح الذي جسّد أحداث الصراع بين القوتين العظميين خلال النصف الثاني من القرن العشرين وعبر عنها بشكل دقيق، تغيب عنه أهم عناصره وهي الأيديولوجيا، ولكن ذلك لا ينفي جوهر المواجهة وهو الصراع، الذي بات صراع مصالح ونفوذ بين دول وقوى كبرى وليس بين كتل، فالغرب لم يعد كتلة واحدة، سواء على الصعيد الأوروبي أو في إطار العلاقات عبر ضفتي الأطلسي، كما أن روسيا ليست الاتحاد السوفيتي، رغم أنها وريثةالشرعية، ما يعني أن الصراع قائم ولكن بأدوات مختلفة تعبر عن التطور الحاصل في المجالات كافة، ولاسيما التقنية.