لا أحد يختلف على التضحيات التي قدمها، ولا يزال الشعب الفلسطيني، من أجل الدفاع عن قضيته، ولا أحد كذلك يزايد على التضحيات التي قدمتها شعوب عربية عدة خاضت مراحل مختلفة للنضال إلى جانب الشعب الفلسطيني، كما لا يستطيع احد أيضاً المزايدة على دور قادة ودول عربية عدة في دعم الشعب الفلسطيني ومساندته من أجل نيل حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ومن بين هؤلاء القادة وهذه الدول تأتي دولة الامارات منذ تأسيسها على يد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ وحتى الآن، ولذا نستغرب أن تترك الأبواق الاعلامية الحاقدة ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتنتهز الفرصة لتصب كراهيتها وحقدها على دولة الامارات وقيادتها الرشيدة.
ورغم هذه الحقيقة فإن الحاصل أنه كلما نشبت أزمة بين الفلسطينيين واسرائيل، وتصاعد التوتر وسُفكت الدماء، تنتهز أطراف وتيارات معينة في الشرق الأوسط، الفرصة للمزايدة على الأنظمة والحكومات العربية وكيل الاتهامات لها بالعمالة والخنوع والفشل والجبن وغير ذلك من قائمة طويلة من قاموس السب والقذف، الذي لا يليق سوى بمرتادي الحانات لا بمن يصفون أنفسهم بالمدافعين عن القضية الفلسطينية، الذين يؤكدون يوماً بعد الآخر أنهم أكثر من أساء لهذه القضية العادلة بانتهازيتهم وبحثهم المستمر عن مصالحهم واستغلال معاناة الشعب الفلسطيني في ابتزاز الآخرين.
للأسف سيبقى دور هؤلاء المزايدون أحد أخطر ملامح الواقع الفلسطيني طالما ظلت هذه القضية العادلة بلا محامون مخلصون من أبنائها، وطالما ظلت القضية بعيدة عن أولويات المجتمع الدولي، أو في أحسن الظروف والأحوال لا يتم التعامل معها بما تستحق من جدية، فلا تزال القضية الفلسطينية هي أحد أخطر محركات التوتر وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وستبقى كذلك، في ظل عوامل الانفجار القائمة في بيئة الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين، أو في ظل ما تشهده هذه البيئة من تدخلات لأطراف اقليمية عدة تتاجر بالشعارات، ولا تتردد في تفجير العلاقات بين الأطراف الفلسطينية وتعميق الخلافات كي تضمن السيطرة على بعض الفصائل والتنظيمات!
نظام الملالي الايراني ـ على سبيل المثال ـ يطلق اسم "القدس" على أخطر ميلشيات "الحرس الثوري"، وهو "فيلق القدس"، الذي لعب الدور الأبرز في إشعال الصراعات وتحويل دول عربية عدة إلى مناطق نفوذ يتحكم بها النظام الايراني، مستغلاً المكانة الروحية العميقة التي تتمتع بها القدس في قلوب المسلمين جميعاً، ومتاجراً بها من دون أي عائد ايجابي يعود بالنفع على الشعب الفلسطيني.
والحقيقة أن المتاجرين بالقضية الفلسطينية لا يفعلون شيئاً للشعب الفلسطيني سوى تمويل وتسليح الميلشيات والفصائل من دون أن تبذل هذه الأطراف أي جهد يذكر في البحث عن تسويات سياسية لصراع تاريخي يدرك العقلاء أنه لن يجد طريقه إلى الحل النهائي سوى عبر مائدة المفاوضات. ولعل الكثيرون يذكرون تصريحات قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الايراني، علي حاجي زادة، التي أدلى بها منتصف يناير الماضي، واقر فيها بأن "كل ما تمتلكه غزة ولبنان من قدرات صاروخية، تم بدعم إيران، وهما الخط الأمامي للمواجهة"، اكرر للمواجهة وليس لتحرير الأراضي الفلسطينية، ولا أدرى كيف يمر مثل هذا التصريح على القادة الفلسطينيين من دون أن يتوقفوا عنده كونه يتحدث علناً عن استخدام تنظيمات فلسطينية كجبهة أمامية في الدفاع عن إيران! يتباهي زادة أيضاً بأن الملالي علمّوا ما وصفه بجبهة المقاومة حرفة الصيد بدلاً من تقديم الأسماك لهم، وكان يقصد أن "حزب الله" اللبناني وبعض التنظيمات الموالية في قطاع غزة باتت تمتلك تكنولوجيا صناعة الصواريخ الايرانية، وأن قدرات هذه الميلشيات لم تعد كما كانت قبل عشر سنوات، وأن الفلسطينيون "يطلقون الصواريخ بدلاً من رمي الحجارة".
لا اتساءل هنا ـ كما يفعل البعض ـ عن دور الملالي في دعم الشعب الفلسطيني في هذه الأزمة العصيبة، فنحن ندرك تماماً أن السؤال ليس في موضعه، فالملالي ليسوا أصحاب قضية بل مجرد متاجرون بها، وشعاراتهم في هذا المجال ليست سوى مخطط سخيف لكسب تعاطف ومناصرة البسطاء من الشعوب العربية والاسلامية، ولكني اتساءل: إلى متى يترك الفلسطينيون قضيتهم للمتاجرة والابتزاز وإلى متى يظل الصف الفلسطيني منقسماً بين الولاء لإيران وميلشياتها من ناحية، والحرص على عروبة القضية والشعب الفلسطيني من ناحية ثانية؟
قد يجادل البعض بأن بعض الحركات الفلسطينية تسعى وترحب بالدعم الايراني في ظل غياب الدعم العربي وصمت العرب عن قضيتهم، ولكن هذا المنطق يمثل خلطاً للحق بالباطل، فالثابت أن الظروف والمعطيات الاستراتيجية التي تحيط ببيئة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي لا توفر للعرب هامش مناورة دبلوماسي كبير على صعيد الدفاع عن قضيتهم المركزية سياسياً، والكل يعرف حجم الضغوط والتحديات الداخلية والخارجية التي تعانيها الدول الفاعلة عربياً، وفي مقدمتها مصر، التي لا يمكن لأحد انكار دورها أو المزايدة عليه، ولكن هذا لا يوفر المبرر المقنع للاستعانة بقوى معادية للعرب وتريد تغيير مسار القضية وتحويلها من قضية احتلال وحقوق تاريخية عادلة إلى قضية دينية صرفة، مايعد تغيير لهوية الصراع! كما لا يجب أن ننسى أيضاً جهود تبذل بإخلاص من جانب دول مثل الامارات، لايجاد طريق ثالث يسهم في ايجاد مخارج لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، حيث نجد المزايدون وتجار القضية يقفون في وجه أي محاولة مخلصة للبحث عن دروب للتسوية السلمية وسط ظروف معقدة دولية واقليمية معقدة للغاية.
الحقيقة أن القضية الفلسطينية لا يجب أن تبقى أسيرة لهوى المزايدون وتجار السياسة والشعارات.