مأساة حقيقة حين لا يكون للدماء ومعاناة الشعوب وزن أو اعتبار في حسابات التنظيمات والجماعات والأنظمة الراديكالية سواء في الشرق الأوسط أو العالم، وعندما اتحدث هنا عن تنظيمات إرهابية مثل "حركة حماس" أو "حزب الله" اللبناني، أو "الجهاد" أو غيرها من التنظيمات والجماعات المسلحة يبدو وكأنني بصدد الخوض في حقل ألغام، ولكنني أجد أنه لا مناص عن النقاش الموضوعي طالما أن الصمت قد يعني المزيد من الأزمات والمواجهات وسفك الدماء والقتل والدمار والخراب.
ومنذ بدء سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة، يتشارك الطرفان الحديث عن تحقيق الانتصار العسكري، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بتغريدات ووسوم تشير إلى انتصار غزة أو فلسطين، والشىء ذاته يحدث بطبيعة الحال على الجانب الآخر، في مشهد متكرر يذكرنا بتفاصيل ما حدث في حرب لبنان عام 2006، بين اسرائيل و"حزب الله" اللبناني، وما خلفته تلك الحرب الدامية من كوارث في البنى التحتية لا يزال لبنان يعاني تبعاتها حتى الآن، ولكن الحزب وضع ـ وقتذاك ـ معايير النصر والهزيمة بالنسبة للتنظيمات والجماعات والميلشيات حين اعتبر ـ ضمناً ـ أن افلات زعيمه من الضربات الاسرائيلية بمنزلة انتصار بغض النظر عن الخسائر الأخرى البشرية والمادية!
لا أريد المقارنة أو حتى إجراء عملية "اسقاط" على المشهد "الغزاوي" في هذه الظروف حتى لا يتهمني البعض بخذلان "المقاومة" و"الخنوع" و"التطبيع" وغير ذلك مما تحتويه قائمة طويلة من الاتهامات سابقة التجهيز التي لا وجود لها سوى في ذهن من يتجاهلون المنطق والحسابات العقلانية في مثل هذه الظروف، ولست من هواة الصيد في المياه العكرة أو محاولة الانتقاص من أي إنجاز لأي من الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، لأن الأمر في حقيقته يبقى حبيس الأهواء ما لم يتقدم طرفي الأزمة خطوة للأمام عبر اتفاق سلام مستدام.
الحقيقة أن الحديث عن الارباح والخسائر في أي جردة حساب دقيقة لحصاد أي أزمة تتوقف على الوزن النسبي لكل عامل من العوامل المؤثرة في هذه الأزمة، وبالتالي فإن تجنيب الخسائر المادية والبشرية وحتى النفسية، والقول بأن إعادة الإعمار كفيلة بمداواة الجروح وترميمها، ليس منطقياً! والحقيقة كذلك أنه يصعب انكار أن الجانب الاسرائيلي قد خسر في هذه المواجهة من هيبته ومكانته كقوة اقليمية كبرى.
ووفقاً للحسابات المادية والرقمية المجردة، تبدو اسرائيل بالفعل وقد حققت انتصاراً، ولكن المواجهات غير التقليدية بين تنظيمات ودول لا تتوقف الحسابات فيها على الأرقام المجردة، بل لها حسابات استثنائية، ولم يحدث أن حقق فيها جيش نظامي مبتغاه حتى وإن تعلق الأمر بجيش القوى العظمى الوحيدة المهيمنة عالمياً، والجميع يعرف كيف تأثرت صورة الجيش الأمريكي بمواجهات معزولة مع ميلشيات غير نظامية في أفغانستان والعراق وغيرها.
المواجهات غير التقليدية لها حسابات غير تقليدية، وقناعتي أنه ليس فيها منتصر ومهزوم، وكل طرف يضع قواعده ومعاييره، والميلشيات والتنظيمات المسلحة ليست كالدول، وليس عليها التزامات ولا تخضع للمحاسبة الشعبية والرسمية، لاداخلياً ولا خارجياً ، ولا تأخذ باعتبارها حجم الخسائر المادية والبشرية، ولا تهتم بالقتلى والجرحي لأنه لديها ـ عادة ـ مخزوناً بشرياًـ يمكن التضحية به وتقديمه قرباناً لتحقيق مايراه قادة هذه التنظيمات انتصاراً، وبالتالي تبدو أكثر تحرراً في الترويج لما تراه حتى وإن تحولت أراضي الدول والمناطق التي تحتمي بها إلى أثراً بعد عين!
وبعيداً عن أي تأويل أو تحريف، يجب الانتباه ـ فلسطينياً وعربياً ـ إلى أن الأحداث الأخيرة لم تكشف فقط موازين القوى المتغيرة في ساحات الصراع، بل كشفت أيضاً حجم التحول العميق في المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية، وقد كشفت المواجهة الأخيرة عن مواقف فارقة في هذا الشأن، وهذا مايجب على الطرف الفلسطيني الانتباه له جيداً، لأن القضايا العادلة تحتاج إلى دفاع واع يجيد قراءة المشهد بتفاصيله بشكل دقيق وموضوعي بعيداً عن المزايدات والتشنجات الاعلامية والدعائية، فالصراع لن يحسم بأعداد الصواريخ التي تُطلق على إسرائيل، بل يُحسم بتوظيف معطيات الواقع من أجل الحصول على الحقوق العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، بمعنى أن الحسم الحقيقي لن يكون سوى على مائدة التفاوض.