لاشك أن تفشي وباء "كورونا" في العالم بما خلفّه من خسائر بشرية كبيرة وتداعيات اقتصادية هائلة، يمثل خطاً فاصلاً بين مرحلتين فارقتين، فما قبل الوباء ليس كما بعده، حيث تغيرت ظروف ومعطيات كثيرة، بل يمكن القول أن هناك إعادة تشكيل للكثير من المفاهيم الجيوسياسية والجيواستراتيجية؛ إذ تحول أحد السيناريوهات الكارثية التي تعرف اصطلاحاً في الأدبيات السياسية بالبجعة السوداء، حيث تحقق ما كان يخشاه الكثيرون ولكن مع سبب مختلف تماماً، فالزلزال العالمي لم يحدث جراء أزمة مالية طاحنة، ولا حرب عالمية ثالثة، ولا حتى استفحال تأثيرات التغير المناخي بدرجة تفوق التوقعات العلمية، ولكنها جاءت بسبب فيروس لم يعرف حتى الآن ـ بشكل رسمي على الأقل ـ أسباب ظهوره وانتشاره، ولا حدود المسؤولية عن هذا التفشي الكارثي.
ماحدث في الوباء هو تطبيق فعلي لنظرية "البجعة السوداء" كما وصفها المفكر الأمريكي اللبناني الأصل نسيم نيقولا طالب، في كتابه الشهير الصادر عام 2007، وقصد بها الأحداث غير المتوقعة التي تحدث بشكل مفاجىء وتنتشر تأثيراتها وتداعياتها بشكل واسع، وقد كان وباء "كورونا" بالفعل مثالاً حياً جيداً للبجعة السوداء شأنه شأن اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وغيرها من أحداث عالمية كانت خارج نطاق التوقعات.
هذا السيناريو الكارثي يعيد تشكيل النظام العالمي باتفاق جميع الخبراء والمتخصصين في العلاقات الدولية، وقد شهدت الأشهر الماضية تدفقات كبيرة من الدراسات والأبحاث الاستراتيجية التي تتناول أنماط القوى والنفوذ والهيمنة في عالم مابعد كورونا، ويرتبط بذلك موقع الولايات المتحدة باعتبارها القطب المهيمن على النظام العالمي القائم، والصين باعتبارها القوة الأولى المرشحة لمنافسة القطب الأمريكي في موقع الريادة.
النقاشات حول موقع الصين في المرحلة المقبلةلم تكن حبيسة الغرف المغلقة ولا قاعات البحث والمؤتمرات العلمية، بل شارك فيه عشرات الملايين من سكان العالم، ممن يتابعون الصعود الصيني وتأثيراته التي طالت كل تفاصيل الحياة اليومية للفرد العادي تقريباً. وقياس الأثر الصيني عالمياً جاء بشكل غير مقصود، وتحديداً من خلال بيان رسمي دعت فيه الحكومة الصينية مؤخراً شعبها إلى تخزين احتياطات غذائية لتلبية الاحتياجات اليومية وحالات الطوارئ من دون تحديد سبب الدعوة، مافتح الباب أمام طوفان من التفسيرات والتأويلات والتحليلات والمخاوف أيضاً. وقد ذهبت بعض وسائل الاعلام لمحاولة حصر المخاوف والتكهنات المرتبطة بالاعلان الصيني في المنطقة العربية، ولكن من تابع وسائل الاعلام العالمية خلال الأيام الماضية، يدرك أن هذه الدعوة قد لاقت الأثر ذاته شرقاً وغرباً ولم يقتصر القلق منها على الشعوب العربية فقط.
وبعيداً عن البحث في دوافع هذه الدعوة، التي يمكن اعتبارها أحد الاستنتاجات أو الدروس التي خرجت بها السلطات الصينية من أزمة التفشي الأولى لفيروس "كورونا" وماتسببت فيه من اغلاقات وخسائر هائلة، لاسيما أن الصين تسعى بقوى لتفادي تكرار هذا السيناريو في ظل اقترب موعد دورة الالعاب الأولمبية الشتوية في بكين خلال شهر فبراير المقبل، وظهور حالات تفش جديدة للوباء في مناطق متفرقة من الصين، بعيداً عن ذلك، يمكن القول أن مثل هذه الدعوات تبدو متكررة في بلد يحتل المرتبة الأولى في استيراد المنتجات الغذائية عالمياً، وتسكن ذاكرته التاريخية فترات مجاعة مؤلمة لا يريد تكرارها، فالعام الماضي دعا الرئيس الصيني شي جينبينغ مواطنيه إلى التوفير وعدم الهدر في الغذاء، ومن ثم تبدو الدعوة هذه المرة مفهومة في سياقها التاريخي والتحليلي، فالصين تريد استعراض قوتها الناعمة في الألعاب الأولمبية الشتوية المقبلة لا أن يكون الحضور الدولي خلال هذه الألعاب مناسبة لوضع هذه القوة العالمية الصاعدة بقوة في موقف حرج!.
المؤكد في كل ماسبق أن الصين باتت موضع اهتمام العالم أجمع منذ تفشي وباء "كورونا" سواء بسبب الاتهامات الموجهة لها بالمسؤولية عما حدث عالمياً انطلاقاً من مدينة ووهان في عام 2019، أو بسبب بروز دورها وثقلها وحدود تأثيرها الاقتصادي المتزايد في الاقتصاد العالمي خلال هذه الأزمة، حيث كان هذا التأثير انعكاساً قوياً لحجم التأثير الاستراتيجي العالمي المتزايد للقوة الصينية في عالم مابعد كورونا، وقديما كان يقال أنه إذا عطست أمريكا كان العالم يصاب بالزكام، واليوم بات واضحاً أن "عطس" الصين يمكن أن يصيب العالم بما يفوق الزكام، فمؤشرات أسعار السلع والخدمات تتجه لارتفاعات قياسية والتوقعات بشأن التضخم والركود والاقتصاد العالمي بشكل عام تبدو متشائمة للغاية خلال العامين المقبلين على أقل التقديرات، وكل التدفقات الاخبارية في هذا الشأن تربط الأحداث كلها بما يجري في الصين أو تشير إليها باعتباره طرف رئيسي فيما يجري عالمياً.
العالم يحسب أنفاسه ليس خوفاً من موجة جديدة من وباء "كوفيد ـ 19"، ولكن من تفاقم أزمة قطاع العقارات الصيني، الذي يمثل نحو 30% من الناتج المحلي الاجمالي للصين، وحدوث أزمة كبرى على غرار "ليمان براذرز" الأمريكية ما قد يؤدي إلى تسونامي يمكن أن يعصف بجميع أسواق الأسهم العالمية، ومن ثم حدوث موجة تضخم هائلة بسبب الانهيار المالي في المصنع الرئيسي للعالم.