تتسارع وتيرة التحركات الدولية التي تصب في مجملها في خانة إعادة تشكيل النظام العالمي في مرحلة ما بعد "كورونا"، حيث تتفاقم الأزمة الأوكرانية وتتوالي التحذيرات الغربية من غزو روسي لأوكرانيا، بينما تواصل الصين رحلة صعودها الاستراتيجي والمراوحة بين الرهان على القوة الناعمة (الاستثمارات والتبادل التجاري) والقوة الخشنة التي تبرز تدريجياً بالتخلي عن اللغة الدبلوماسية الهادئة في الرد على أي انتقادات غربية للسياسات الصينية سواء حيال تايوان أو على الصعيد الدولي.
في إطار هذه التحركات الحيوية، تأتي زيارة الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي لروسيا، والتي وصفها بأنها "نقطة تحول" في علاقات طهران مع موسكو، حيث يضيف توقيت الزيارة أهمية نوعية لمحادثات رئيسي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بالتزامن مع انعقاد الجولة التفاوضية السابعة لإحياء الاتفاق النووي الذي وقعته القوى الدولية (5+1) مع إيران عام 2015.
ويتوقع الكثير من المراقبين، أن يكون مسار فيينا التفاوضي في صدارة اهتمامات أجندة القمة الروسية ـ الايرانية، لدرجة أن أحد المحللين الروس قد تكهن بأن الرئيس الايراني قد يخبر الكرملين بحقيقة ما وصلت إليه القدرات النووية الايرانية من أجل بناء حسم سقف التفاوض الايراني بالتنسيق مع الكرملين، الذي تجمعه مصالح مشتركة عديدة مع طهران في هذه المرحلة.
الواقع يقول أن كل من الصين وروسيا وإيران تسعى للتنسيق المشترك على الصعيدين الاقتصادي والتجاري وتعطي لهذا الجانب أولوية قصوى انطلاقاً من قناعة الأطراف الثلاثة بأن الولايات المتحدة ليست على استعداد لخوض حروب جديدة، وبالتالي تتراجع تلقائياً موضوعات التعاون العسكري ومبيعات السلاح؛ فممرات النقل والمشروعات الجيوسياسية التي تشكل محاور مهمة لطريق الحرير الجديد، تحتل اولوية قصوى تفوق صفقات التسلح في الوقت الراهن على الأقل.
الحقيقة أن الولايات المتحدة لا تريد خوض مواجهات جديدة وتركز على التفرغ للتصدي للتحدي الاستراتيجي الصيني، فضلاً عن رغبة الرئيس بايدن في الاستعداد للانتخابات النصفية للكونجرس. اليوم، يحتاج بايدن نفسه إلى مفاوضات فاعلة وهدنة مع بوتين. فنتائج استطلاعات الرأي ليست في مصلحة الرئيس الأمريكي، وفي العام المقبل هناك انتخابات مهمة في الكونغرس، حيث يدرك بايدن أن تراجع شعبيته سيؤثر حتماً في نتائج الحزب الديمقراطي في هذه الانتخابات، وأن المزاج الشعبي الأمريكي ليس مستعداً لتقبل خوض حرب جديدة مهما كانت المبررات، وبالتالي فهو يركز على تمرير قوانين واصلاحات تعالج آثار تفشي وباء "كورونا" على الناخبين الأمريكيين.
مؤخراً، دخلت اتفاقية التعاون التجاري والاستراتيجي بين الصين وإيران حيز التنفيذ، وهي اتفاقية مدتها 25 عاماً وتعد وثيقة شاملة للتعاون وتتضمن خارطة طريق متكاملة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية بحسب وصف المتحدث باسم الخارجية الايرانية سعيد خطيب زادة، وما تسرب عن هذه الاتفاقية من بنود مهمة يتمثل فيم نشرته مجلة "بتروليوم ايكونوميست" التي ذكرت أن الصين ستستثمر ـ بموجب هذه الاتفاقية ـ280 مليار دولار في صناعة النفط والغاز و120 مليار دولار في صناعة النقل الايرانية، ويصاحب هذه الاستثمارات الضخمة تخفيض في أسعار النفط الايراني للصين (تحصل الصين على خصم يصل إلى 32% على مشترياتها من النفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية، مع تأخير السداد لمدة عامين)، كما تحصل بكين على أولوية في تنفيذ مشروعات التنمية الايرانية.
والحقيقة أنه رغم كل التحليلات التي تتحدث عن تحالف إيراني ـ صيني، فإن الواقع يقول أن بكين لا تعتمد استراتيجيات قائمة على تحالفات ضيقة أو انحيازات أيديولوجية، بل تراهن على المصالح المشتركة من خلال بناء علاقات متوازنة ومتوازية مع جميع الدول والأطراف، حيث تلتزم بكين بعدم الاعتماد على وكلاء محددين في أي منطقة وتتفادى تماماً الانزلاق إلى دائرة الاستقطاب والانحياز لأي طرف في الصراعات. لكن لا ينبغي تجاهل المكاسب الاستراتيجية الكبيرة من شراكة إيران مع الصين، حيث تتعزز قدرة طهران على تحدي النفوذ الأمريكي او على الأقل مناكفة الولايات المتحدة، وهذا الأمر يعود بفوائد استراتيجية غير مباشرة على بكين، باعتبار أن كل خصم من النفوذ الأمريكي هو بالمقابل يمثل ربحاً للمنافس الصيني. ولكن يبقى تساؤل رئيسي مهم حول قدرة الصين على بناء توازن فعلي في شراكاتها الاستراتيجية مع جميع الأطراف المتنافسة والمتصارعة في منطقة الشرق الأوسط.
الحقيقة أيضاً أن منطقتنا تشهد تغيرات استراتيجية متسارعة، كانعكاس لتغيرات أوسع وأشمل تشهدها الخارطة العالمية، لذا يبدو ضرورياً دراسة التغيرات الحاصلة بدقة وتأن للتعرف إلى تأثيرات ما يدور من حولنا، وصناعة القرار وفق معطيات دقيقة لحماية مصالح الدول والشعوب وتفادي حدوث أي مفاجآت جراء التحولات الكبرى المتسارعة التي يشهدها النظام العالمي.