منذ إندلاع العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، يشهد العالم تحولات نوعية كبرى تسهم جميعها في رسم معالم مرحلة مابعد أوكرانيا في النظام العالمي الجديد، ونلحظ هنا أن هذه الأزمة الكبرى قد طغت بجدارة على تأثير تفشي وباء "كورونا"، والذي كان يلعب دور قاطرة التغيير في "هندسة" العلاقات الدولية حتى نهاية فبراير الماضي، ولكنه ماحدث أنه تراجع بشكل كبير للغاية ليحل محله العامل الأوكراني الذي أصبح قاطرة جديدة للتغيير المرتقب، وربما يحمل المستقبل القريب قاطرة جديدة أكثر تأثيراً وأشد فاعلية!
أول التحولات التي قفزت لصدارة المشهد العالمي حالة الإستقطاب الحادة في العلاقات الدولية، حيث يبدو المشهد أشبه ولو من بعيد بحقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حين تشكلت حركة عدم الانحياز عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، للنأي بالنفس عن التنافس بين الكتلتين، الشرقية والغربية، وحلفي :"وارسو" و"الأطلسي"، ورغم أن هذا التكتل قد تحول وقتذاك إلى إطار مؤسسي مؤثر في العلاقات الدولية، فإن ما يمكن تسميته بدول الحياد في أزمة أوكرانيا ليست على النسق ذاته، أيدلويوجياً وفكرياً وجيوسياسياً، وأغلبها يمتلك علاقات متشعبة مع طرفي الأزمة الأوكرانية (روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة).
ثمة تحول مهم آخر يتمثل في استفاقة أوروبا على واقع استراتيجي خطير يتمثل في عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها في حال تخلي الولايات المتحدة عنها، أو سحب قواتها من أوروبا، حيث يتحدث خبراء عن محدودية القدرات العسكرية للجيوش الأوروبية الكبرى لاسيما في ظل الخفض المتكرر للميزانيات العسكرية خلال العقود الماضية، ما تسبب في بروز فجوات من حيث الجاهزية العملياتية وتطور التسلح، لاسيما في مجالات مثل الصواريخ الذكية والطائرات المسيرّة والقدرات السيبرانية الهجومية (ربما لأسباب قانونية بالأساس) فضلاً عن التركيز الكبير على استراتيجيات الحرب غير المتكافئة عقب ظهور التهديدات الإرهابية وغيرها، وتراجع الإهتمام بالحروب التقليدية، التي عادت مجدداً لتظهر كخطر قديم جديد في العمليات العسكرية الروسية بأوكرانيا، حيث تخشى أوروبا امتداد الحرب إلى دول مثل استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبيلاروسيا وبولندا وسلوفاكيا.
هناك أيضاً تراجع فاعلية القدرات النووية بسبب تأثير توازن الرعب المتبادل بين القوى الكبرى، مايركز الأنظار على قدرات الردع الكلاسيكية، التي تعيد الأهمية لحلف الأطلسي وتمنحه "قبلة حياة" جديدة بعد أن ظل لسنوات طويلة يبحث عن "هوية" وأهداف جديدة لم تكن في معظمها مقنعة ـ بنظر الكثير من المراقبين ـ للإبقاء على دور الحلف في السنوات والعقود المقبلة، ولذا يلاحظ تحرك الحلف بسرعة لنشر قوة الرد السريع لحماية البوابة الشرقية لدول الحلف في أوروبا، وهذا هو الإنتشار الأول لهذه القوة التي تشكلت عام 2002، للإستجابة لمجموعة واسعة من التحديات تمحورت بالأساس حول الكوارث وعمليات الاجلاء والاغاثة الانسانية بجانب مهام أمنية مثلما حدث في أولمبياد اثينا عام 2004.
هناك أيضاً وضع آليات جديدة للصراع على النفوذ والمكانة في القرن الحادي والعشرين، فالأزمة الأوكرانية لا تتمحور فقط حول إستعادة النفوذ وضمان الأمن القومي الروسي بل تشمل أيضاً وضع آليات جديدة تؤطر علاقات مابعد أوكرانيا، ومن هذه الآليات خطوط أنابيب الغاز، حيث تحرص روسيا على ترجمة دورها كمورد رئيسي للغاز في العالم إلى نفوذ جيواستراتيجي.
يحتاج المشهد برمته إلى تريث تحليلي ـ إن صح التعبير ـ لاستكشاف حدود دور القوة العسكرية التقليدية في حسم الصراع على توازنات القوى في النظام العالمي المقبل؛ فبعد فترة من اقتراب النقاشات حول أدوات الصراع المستقبلية وموقع القوة العسكرية فيها، والاتفاق على أن الصراعات ستتمحور حول التكنولوجيا والقوة الاقتصادية، تُبرز الأزمة الأوكرانية مسألتين مهمتين أولهما رغبة روسيا في تعظيم دورها في لعبة صراع النفوذ الدائرة بين الصين والولايات المتحدة، والمسألة الثانية هو رغبتها (روسيا) في الابقاء على القوة العسكرية كاحد أبرز عناصر مزيج القوة الشاملة للقوى الكبرى في القرن الحادي والعشرين، بل إنها تريد الابقاء على السلاح النووي كعامل ردع حيوي رغم ترسخ قناعة جماعية بخطورته التدميرية، بمعنى أن موسكو تتمسك بالقوة العسكرية والسيبرانية كأداة للصراع الدولي ومنافس قوي ـ وليس بديلاً ـ للقوة الاقتصادية والتفوق العلمي والتكنولوجي.
التغير الأهم، برأيي، قد يولد من رحم نهاية الأزمة الأوكرانية، بمعنى أن انتصار روسيا وفرض كلمتها سيعني الكثير على الصعيد الجيواستراتيجي، والأهم في هذه التغيير هو ترقب سلوك الصين حيال تايوان، وما إذا كانت ستستنسخ السيناريو الأوكراني أم لا؟ فضلاً عن أن الوضع الجديد سيضع روسيا على رأس كتلة قطبية جديدة تنازع على قيادة النظام العالمي، ما يعني تفاقم حالة الإستقطاب في العلاقات الدولية وبروز صراعات جديدة في مناطق مختلفة من العالم سواء بسبب التراجع المتوقع للسيطرة الأمريكية، أو بسبب اندفاع روسيا لانتزاع مكاسب إستراتيجية جديدة واستغلال حالة الفوضى المتوقعة في العلاقات الدولية بفعل الحالة الإنتقالية التي يمر بها العالم، ناهيك عن وضع حلف الأطلسي على المحك بشكل أكبر وأخطر، حيث يتوقع أن تتجه روسيا لزيادة الضغوط الإستراتيجية على دول أوروبا الشرقية السابقة الأعضاء الحاليين بالحلف للتخلي عن عضويتها، ما يجعل الأطلسي في اختبار مصيري حقيقي لحماية أعضائه، ناهيك عن فكرة التوسع، وهذا كله قد يفتح المجال لمواجهات عسكرية جديدة في أوروبا.