رغم غزارة التحليلات ومقالات الرأي التي تتناول مختلف أبعاد وجوانب الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن من الصعب بناء تصورات تحليلية معمقة ودقيقة حول تداعيات هذه الأزمة التي لم تكشف عن الكثير من أسرارها وتداعياتها بعد، ولكن من الممكن استخلاص بعض الدورس والاستنتاجات مما حدث حتى الآن. وأول هذه الاستنتاجات يرتبط بالإعتماد الأمريكي المطلق ـ على الأقل في فترة ولاية الرئيس بايدن ـ على العقوبات كسلاح لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وهذا يعني أن الولايات المتحدة ليست بصدد دخول
مواجهات عسكرية دفاعاً عن مصالحها الإستراتيجية وبدرجة أكبر دفاعاً عن أحد حلفائها، وهذا الأمر ينطوي على الكثير من جوانب الأهمية بالنسبة لحلفاء واشنطن سواء في الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا، فالكل تابع كيف أكتفت واشنطن وحلف الأطلسي بمتابعة دخول القوات الروسية إلى أواكرانيا والقول بأن الحلف يدافع فقط عن أعضائه، وهذا يعني الكثير لحلفاء مثل تايوان وآخرون ظلوا يعتقدون بأن الحليف الأمريكي يمكن أن يتدخل عسكرياً دفاعاً عنهم في حال التعرض لخطر خارجي، ورغم أن الإستثناء الوحيد من هذا التعميم قد ينطبق على إسرائيل، بحكم قوة روابطها وتحالفاتها التقليدية مع الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص، فإن ما حدث مع أوكرانيا سيخضع بالتأكيد للبحث والتحليل في معاهد الدراسات الإستراتيجية الاسرائيلية للخروج بخلاصات واقعية تتعلق بأمن إسرائيل في حال تعرضها لتهديد خارجي، لأن الأحداث الجارية تنطوي على دروس مهمة يمكن للجميع الإستفادة منها وتفادي سوء الإدراك والتقدير والحسابات الخاطئة.
ثاني هذه الإستنتاجات يتمثل في التساؤل عن توقيت تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي التي قال فيها أنه مستعد لتقديم تنازلاتٍ بشأن وضع المناطق الإنفصالية عن أوكرانيا وابداء استعداده للتخلي عن حلم الانضمام إلى حلف الناتو مقابل الحصول على ضمانات أمنية روسية أمريكية تركية بشأن الحفاظ على إستقلال وسيادة أوكرانيا، وهي تصريحات يمكن أن تكون مفهومة في ظل الواقع الميداني، ولكنها ليست كذلك من حيث التوقيت، لأنها توحي بأن الرئيس الأوكراني قد فهم متأخراً أن حلف الناتو لن يخوض حرباً دفاعاً عن دولة غير عضو بالحلف، وأنه أساء تقدير الموقف الروسي!
الإستنتاج الثالث يرتبط بالأمم المتحدة ومؤسساتها وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي، حيث يعتقد فريق من المراقبين والباحثين أن وصول المنظمة الدولية إلى حد مناشدة روسيا "باسم الإنسانية" لوقف الحرب، يعكس الضعف الذي يخيم على دور المنظمة، ما يدفع البعض للقول بإنهيار نظام مابعد الحرب العالمية الثانية في العلاقات الدولية. ولكن الموضوعية تقتضي القول بأن تراجع دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن ليس جديداً ومن الصعب تحميل مسؤولية ذلك أو القائه على عاتق روسيا بمفردها، فالمسألة لها ماض يعرفه الجميع، حيث فشلت الأمم المتحدة في وقف العديد من الحروب في العقود والسنوات الأخيرة، أو حتى تطبيق القانون الدولي في حالات عديدة. وهذه الممارسات قديمة قدم الدعوات المتوالية لإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ولعل الكثيرين يذكرون تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس عام 2019، والتي أشار فيها إلى أن العلاقات بين أهم ثلاث قوى دولية: الصين وروسيا والولايات المتحدة "لم تكن أبدًا مختلة كما هي اليوم"، وقال "لم نعد نعيش في عالم ثنائي القطب أو أحادي القطب، لكننا لسنا بعد في عالم متعدد الأقطاب. نحن نعيش في عالم أصبحت فيه التحديات العالمية مجزأة أكثر فأكثر، والتعامل معها مجزأ أكثر فأكثر. إذا لم يتم تغيير ذلك، فهذه وصفة لكارثة"، ويبدو أن الكارثة قد حلت بالفعل بنشوب حرب أوكرانيا التي وضعت القوى الكبرى جميعها في مواجهة صفرية معقدة للغاية.
وقد يكون النقاش عن ولادة نظام عالمي جديد أمراً مستمراً منذ نحو عقدين، وازداد تسارعاً منذ تفشي وباء "كورونا" في العامين الأخيرين، ولكن الجديد أن الحديث لم يعد محصوراً بين الولايات المتحدة والصين، حيث دخلت روسيا على خط التنافس القطبي بكل قوة وشراسة لتنقل النقاش الذي كان يراوح بين الأحادية والثنائية القطبية ليتمحور حول تعددية قطبية جديدة تكون فيها الولايات المتحدة والصين وروسيا قوى مهيمنة، مع انتظار صعود قوى دولية أخرى في المدى المنظور في مقدمتها ألمانيا التي كشف عن نوايا لاستعادة النفوذ واعادة بناء قوتها العسكرية مجدداً.
إستنتاج آخر يتعلق بأثر العامل الأوكراني على الخارطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، حيث تتسارع وتيرة التقارب بين دول مثل تركيا واسرائيل، فرغم وجود مؤشرات لذلك قبل اندلاع الحرب، فإن الأمور تتسارع على ارضية سياسات براجماتية تقفز على الحساسيات والشعارات والأيديولوجيات، فتركيا باتت ترى خطراً في الإعتماد المتزايد على الغاز الروسي، وترى في الغاز الإسرائيلي بديلاً أكثر واقعية، كما ترى في اعادة ترميم العلاقات مع إسرائيل رسالة إلى الغرب لاثبات صدق نواياها في استعادة روابطها الأطلسية. وبالمقابل هناك لإسرائيل مصلحة مؤكدة في التقارب مجدداً مع تركيا لتفكيك روابطها مع "حماس" وغيرها، وهذا بحد ذاته يمثل إضافة مهمة تعزز جهود عزل ما يعرف بتنظيمات "المقاومة" التي ترعاها وتمولها إيران.