رغم كل محاولات مداواة الجرح العميق الذي تعاني منه العلاقات الخليجية ـ الأمريكية، ورغم الصدوعات الواضحة التي أصابت هذه العلاقات، فإن العلاقات تنتظر منعطفاً هو الأصعب والأشد خطورة في مسيرتها، وهو التفاهمات الخاصة بإحياء الاتفاق النووي الايراني الموقع عام 2015، بين طهران ومجموعة "5+1"، إذ ستؤكد هذه الخطوة ـ إن تمت ـ الفكرة التي سادت خلال السنوات الأخيرة بأن الولايات المتحدة مستعدة للتضحية بحلفائها من أجل الحصول على مصالحها.
الواضح ـ بالنسبة لي على الأٌقل ـ أن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن يمارس دوره السياسي انطلاقاً من معطيات الفترة التي كان خلالها نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما (2009 ـ2017)، فلا يزال يتحرك في علاقاته الدولية جميعها وفق رؤية إستراتيجية تشكلت خلال تلك الفترة، ومن يقع في كثير من الأخطاء الناجمة عن عدم رغبته في تبني نهج واقعي لاسيما حيال شركاء بلاده وحلفائها في منطقة الخليج العربي.
يتجاهل الرئيس بايدن على سبيل المثال تطور علاقات كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات مع قوى دولية أخرى، وهذه مسألة في غاية التأثير لأن هذا التطور لا يتعلق بأمور بروتوكولية بل بات يقوم على مصالح إستراتيجية ضخمة تربط بين الدولتين وقوى أخرى مثل الصين وروسيا، حيث ارتقت أطر التعاون المشترك إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية بكل ما يعنيه المفهوم من دلالات وأبعاد يصعب القفز عليها او تجاهلها من جانب واشنطن.
باعتقادي فإن النقطة التي تسببت في دفع علاقات واشنطن مع حلفائها الخليجيين إلى هذا المستوى غير المسبوق من التدهور هو تجاهل الولايات المتحدة مصالح هؤلاء الحلفاء، حيث نجد مطالب أمريكية تتعلق بزيادة الانتاج النفطي بغض النظر عن التزامات هؤلاء الحلفاء في أطر مؤسسية دولية أخرى مثل "أوبك+"، ما يجعل من الصعب الإستجابة للمطلب الأمريكي حفاظاً على صدقية الدول الأعضاء، والمسألة في هذا الشأن لا تتعلق ـ كما يثار إعلامياً ـ بتحدي الحليف الأمريكي أو رفض الإستجابة لطلباته أو الإنحياز للطرف الروسي في الأزمة الأوكرانية، ولكن الأمر ببساطة أن مثل هذه المطالب تمثل تجاوزاً للمألوف في العلاقات الدولية، وتضر بمصداقية البلدين وسمعتهما ومكانتهما وكان يفترض ألا تصدر من الجانب الأمريكي على الأقل بالشكل الذي أعلنت به.
"الجيوبولتيك" الإقليمي في الشرق الأوسط يتغير، والولايات المتحدة يجب أن تستوعب هذه التغيرات وتتعامل على أساسها كي تحافظ على تحالفاتها ومصالحها، ولاسيما أن أزمات السياسة الخارجية الأمريكية لا تقتصر على حلفاء الخليج، فهناك توترات وخلافات عميقة تسيطر على علاقات واشنطن مع حلفاء تقليديين كثر حول العالم سواء بسبب أزمة أوكرانيا أو ماقبلها من أحداث.
لا اعتقد أن هناك مبرراً منطقياً واحداً يمكن أن يفسر توقعات الولايات المتحدة بالحصول على دعم وتعاون دول مجلس التعاون إلى جانبها في الأزمة الأوكرانية في ظل تخلي واشنطن عن كل تعهداتها حيال أصدقائها الخليجيين، فالكل تابع التغول الإيراني إقليمياً والهجمات التي تشنها طائرات وصواريخ الميلشيات المدعومة من إيران، في وقت لم يصدر عن الجانب الأمريكي سوى ردود أفعال كلامية لم تترجم إلى مواقف جادة لتنفيذ التعهدات الأمريكية إزاء أمن الحلفاء، ناهيك عن تجاهل الإدارة الأمريكية وجهة نظر دول مجلس التعاون بشأن الإتفاق النووي الإيراني والإصرار على تكرار خطأ إدارة أوباما في الاتفاق نفسه.
المؤكد أن أي مساحة تقلص في العلاقات الخليجية ـ الأمريكية تمثل إضافة جديدة لعلاقات دول الخليج مع قوى دولية أخرى، وهذا الأمر لا يصب في مصلحة واشنطن التي تخوض صراعاً دولياً شرساً من أجل الحفاظ على مكانتها وهيمنتها على النظام العالمي. واللافت أنه في الوقت الذي يفترض فيه أن تسعى الولايات المتحدة لتعزيز علاقاتها مع حلفائها في الشرق الأوسط والخليج العربي، إتجهت إلى تبني إستراتيجية جديدة قائمة على تقليص وجودها ودورها في واحدة من أهم مناطق الصراع على النفوذ عالمياً، ما دفع الجميع للإعتماد على الذات وبناء شراكات وتحالفات إقليمية جديدة لملء الفراغ الاستراتيجي الذي نجم عن غياب أو تراجع الدور الأمريكي في المنطقة.
ملامح المأزق الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط واضحة، والإشكالية أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تفعل الكثير من أجل ترميم ومعالجة الأخطاء، وتكتفي بالرهان على البيانات والتصريحات الصحفية والكلمات التي لا تكفي مطلقاً لإعادة تصحيح الأخطاء.