يبدو أن التوقعات القائلة بأن العمليات العسكرية الروسية الدائرة في أوكرانيا ستنتهي بمجرد تحقق الأهداف الإستراتيجية التي بدأت من أجلها، ليست دقيقة تماماً؛ فالشواهد تؤكد أن الأزمة تتطور وأن ماحدث ـ حتى الآن ـ ربما يكون قمة جبل الجليد وأن القادم ربما يكون أسوأ. لو تتبعنا التطورات المتسارعة خلال الأيام الأخيرة، ندرك بسهولة أن الأزمة تتعمق وتتسع دائرتها ويصعب التكهن بتأثيراتها الإستراتيجية. الأخطر فيما يحدث حالياً هو تزويد أوكرانيا بالأسلحة كما كان يحدث في دول أخرى تحولت إلى مستنقع للجميع، وليس لطرف دون آخر، وقد حدث ذلك في أفغانستان ومن قبلها ليبيا وسوريا ودول أخرى عديدة تحولت الأزمات فيها إلى معضلة مزمنة يصعب التوصل إلى حلول بشأنها. ورغم أن الموقف الغربي بشأن تزويد أوكرانيا بالأسلحة يبدو محملاً بالتبريرات، فإن عواقبه ستكون مكلفة للجميع بما فيها الغرب ذاته.
الأزمة الأوكرانية تتعقد منذ الإعلان عن تدفق المقاتلين من دول أخرى، وهذا يعني وجود إحتمالية عالية لتحول أوكرانيا إلى ساحة قتال مستباحة، ربما تختلف عن دول أخرى في إمكانية السيطرة على أي عمليات لنقل الأسلحة عبر الحدود، ولكن ذلك لا ينفي صعوبة السيطرة على حاملي الأسلحة ذاتهم، حيث يمكن أن تنتقل العناصر الإرهابية إلى أوروبا وبقية دول العالم، ناهيك عن أن تدفقات الأسلحة ستجعل فكرة إستعادة الأمن والاستقرار في أوكرانيا ذاتها، في حال تم التوصل لتسوية، سيناريو صعب للغاية، ما يدفع للقول بأن التصدي للعمليات العسكرية الروسية بهذه الطريقة سيكون مكلفاً للغاية بالنسبة لأوروبا، في ظل الإنتشار الكثيف للأسلحة في هذا البلد بعيداً عن سلطة الدولة.
إحدى أخطر المعضلات فيما يجري في هذه التطورات أن الحرب في أوكرانيا تنتقل تدريجياً إلى مواجهة روسية ـ غربية على أرض أوكرانية، وربما على أرض أوروبية أخرى إذا تصاعدت المؤشرات الراهنة وانتقل الجانب الروسي إلى تنفيذ تهديداته باستهداف أي دولة تقوم بتزويد أوكرانيا بالأسلحة، حيث يتزايد الحديث عن حرب عالمية ثالثة ويبدو الأمر أكثر خطورة ووضوحاً مقارنة بالفترات الأولى من الأزمة.
التصاعد والحدة في التراشق الخطابي الروسي ـ الغربي، والذي بلغ حد التحذير من الإستهانة بنذر إندلاع حرب عالمية ثالثة، والتهديد الروسي الصريح بالرد الحاسم والصاعق على أي تدخل غربي في أوكرانيا، يتزايد منذ المؤتمر الذي دعت إليه الولايات المتحدة وانعقد في القاعدة العسكرية الأمريكية برامشتاين الألمانية، وشارك فيه ممثلي أربعين دولة بعضها من خارج حلف "الناتو"، حيث جرى الاتفاق على تزويد الجيش الأوكراني بالأسلحة الثقيلة والمسيرّات، ومنظومات تسليحية متطورة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، في ترجمة واضحة لما قاله لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكى من أن أوكرانيا يمكنها تحقيق النصر على روسيا إذا كانت لديها المعدات المناسبة والدعم المناسب، وهو تصريح في غاية الخطورة ويعني بروز توجه أمريكي لاستغلال الموقف في الحاق الهزيمة بروسيا والتخلص من أحد أخطر منافسيها الاستراتيجيين في إطار لعبة إعادة هندسة قواعد النظام العالمي الجديد (أعلنت الولايات المتحدة عن مساعدة عسكرية جديدة لأوكرانيا قيمتها 700 مليون دولار وبذلك ترفع مساعدتها الى 3.4 مليار دولار)، وهذا يعني أيضاً أن الحرب في أوكرانيا قد أخذت منحى مغاير لما بدأت عليه، وأن الغرب قد تخلى عن موقفه بعدم التدخل المباشر، والاكتفاء بتزويد أوكرانيا ببعض الأسلحة، إلى ماتصفه روسيا بأنه حرب بالوكالة ضدها. وما يفاقم الوضع أن الغرب يحاول إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا، والأخيرة لن تقبل بذلك مطلقاً لاسيما انها قوة نووية يمكن أن تلجأ إلى هذا السلاح المدمر في حال استشعرت وقوعها في فخ الهزيمة بكل ما تعنيه من إذلال ومهانة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
شخصياً، لا ادعم الفكرة التي يروج لها بعض المحللين الغربيين، والقائلة بأن روسيا تسعى إلى توسيع دائرة الصراع لتصبح معركة كبرى ضد الغرب بشكل عام، فمهما كانت الخلافات والتوجهات الأيديولوجية التي تحرك الكرملين والأحقاد التاريخية الدفينة بين الجانبين، فإن هذا لا يقدم تفسيراً مقبولاً للفكرة السابقة، ومع ذلك على الجميع أن ينتبه جيداً لحديث وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف عن حرب عالمية ثالثة وإشارته إلى مخاطر نشوب حرب نووية وقوله "إن الخطر جسيم وحقيقي ولا ينبغى الإستهانة به"، حيث ينقلنا هذا الحديث إلى مربع أكثر خطورة والتهاباً حيث يتجه طرفي الصراع الأساسيين، روسيا والغرب، إلى تبني مواقف حدية متطرفة، ومعادلات صفرية، ويتزايد النقاش حول ضرورة إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا في أوكرانيا، بينما تبدو مواقف موسكو أكثر عصبية وتشدداً مقارنة ببدايات الأزمة، حيث قال لافروف أثناء إستقباله للأمين العام للأمم المتحدة أن الغرب أستغل أوكرانيا لاستفزاز روسيا، وأن الولايات المتحدة تريد أن تجعل العالم أحادى القطب يدوم إلى الأبد، ولكن هذا الزمن قد انتهى، وهذا يعني الإنتقال إلى المواجهة غير المباشر والحرب بالوكالة بدلاً من حصر الموضوع داخل الإطار الجيواستراتيجي المحدود للأزمة.
في اعتقادي فإني أرى أن مؤشرات الأزمة في الآونة الأخيرة توحي بأنه لم يعد مستبعداً الإنتقال إلى سيناريوهات أكثر خطورة وأشد تأثيراً، ولاسيما أن روسيا تظهر قناعة على أن حلف "الناتو" يخوض ضدها حرباً بالوكالة بسبب تزويد كييف بالأسلحة، وهذا يعني ببساطة ـ بالإضافة إلى شبح الحرب العالمية الثالثة ـ إستمرار إرتفاع أسعار مواد الطاقة، مع كل ما يعنيه ذلك من ركود كارثي للإقتصاد العالمي بأكمله، وهذا يعني بروز إحتمالية عالية لتصدع التحالف الغربي ضد روسيا، وتكرار سيناريو التعاطي مع أزمة تفشي جائحة "كوفيد"، حين بحثت كل دولة عن طوق نجاة من هذا الوضع المتأزم بغض النظر عن التحالفات والإلتزامات المرتبطة بعضوية الكتل والأطر المؤسسية التنظيمية الاقليمية والدولية.