يلفت إنتباهي بشدة هذه النقاشات والمداخلات والجدل العبثي الواسع الذي ينتشر مؤخراً عبر صفحات وسائل التواصل الإجتماعي العربية حول قضايا فقهية محسومة تخص حقوق المرأة ونظرة الدين الإسلامي لها، وفرعيات أخرى مثل الحجاب والنقاب، حيث يتبادل المتجادلون القصف الكلامي العنيف وعبارات تدخل في خانة السب والقذف المتعمد، وأخرى لا يستطيع المرء ـ بعد قراءتها ـ الإنتصار لهذا الرأي أو ذاك.
إتهامات مقولبة تم تجهيزها مسبقاً في صناديق المدفعية الكلامية الجاهزة للقصف، ومزايدات عنترية واضحة، ومتاجرات بالدين تارة وبحقوق المرأة تارة أخرى، حتى أن القضايا برمتها تتحول أحياناً من جدال حول حقوق المرأة، إلى معركة بين مؤيدي القيود (بكل أنواعها المجتمعية والدينية) ودعاة التحضر، وبين هذا وذاك تتطاير عبارات على شاكلة "العقل الذكوري"، و"قمع المرأة"، "الهوس الجنسي" و"دعاة العلمانية والانفلات" وغير ذلك، ويصبح النقاش بحد ذاته واجهة مسيئة للمجتمعات بغض النظر عن أهدافه ومبتغاه.
بعد أربعة عشر قرناً من الزمان، يسقط بعض الدعاة في فخ البحث عن الشهرة وإغراء الإنتشار، وما يجلبه من أموال أو حتى عوائد معنوية، فيستخدم ألفاظاً وعبارات لا علاقة لها بالدين في الحديث عن المرأة وتفسير بعض الجرائم المجتمعية التي لها دوافع منقطعة الصلة تماماً بالدين والمسجد والحلال والحرام والحجاب والنقاب، بينما يتمترس على الجانب الآخر بعضاً ممن يرون أن هناك مشكلة في فهم الإسلام، وأن هناك أزمة في علاقة الرجل بالمرأة!
لست هنا بصدد الإنتصار لأي تفسير ديني أو أخلاقي أو نفسي أو غير ذلك لما تشهده بعض مجتمعاتنا العربية من جرائم، ولست كذلك بصدد الإنتصار لمن يهاجمون أصحاب هذ التفسيرات، مهما كانت حدتها، فالمعضلة الأساسية ليست في هذا الطرف او ذلك، لأنهم جميعاً ليسوا سوى "أعراض" لمرض أساسي أصاب مجتمعات عربية شتى منذ زمن طويل، وللأسف يستشرى ويستفحل في جسد هذه المجتمعات بما يهدد ثوابتها وركائزها وأمنها.
ما أقصده هنا أن المشكلة الأساسية التي تفرز لنا هذه الممارسات الإعلامية الغوغائية هي غياب ثقافة الحوار وتفشي العنف اللفظي، وغياب المسؤولية، حيث أصبح الفضاء العام متاحاً ومفتوحاً لكل من يريد أن يصل لأقصى درجات الإستهتار القيمي والأخلاقي والديني، وهذا ليس ذنب الدول، وليس نتاجاً لأي تقصير إجرائي وتنظيمي حكومي أو رسمي، بل يمثل أحد مخرجات التفاعل الخاطئ مع أدوات العصر، والانسياق وراء الرغبة في الشهرة وإغواء "التريند"، وهو بالمناسبة إغواء لا يقتصر على شاب أو فتاة محدودة التعليم والخبرة، بل يطال بعضاً ممن يفترض فيهم الوعي والتعليم والقدرة على الحكم على الأمور وإدراك مسؤولية الكلمة وتأثيراتها. صحيح أن هناك قوانين رادعة يمكن أن تلاحق "بعض" المتجاوزين عبر "شبكات التواصل الإجتماعية"، ولكن لا يتصور أن تنجح أي إجراءات قانونية مهما كانت فاعليتها في ملاحقة "كل" المتجاوزين وإلا نحتاج إلى جيوش لرصد وملاحقة كل التجاوزات التي تفيض بها المواقع والصفحات!
معضلة الفعل ورد الفعل والإستنفار المجتمعي الواضح والمتمحور في معظمه ـ ظاهرياً ـ حول الدين، هي في حقيقتها صراع بين مريدي الشهرة من الجانبين، من يزعم الدفاع عن الدين وحمايته، ومن يدعي الوعي والإيمان بحقوق المرأة والمدافعين عنها، وكلاهما على النقيض تماماً، فهو سباق بين تطرف وتطرف مواز لا يلتقيان، وبينهما أو ورائهما تطرف ثالث يحصد ثمار ما يزرعان ويجني حصاد ما يغرسان.
برأيي فإن أي سجال كلامي لا قواعد له ولا ضوابط، هو البيئة الأمثل لتكاثر ما يمكن وصفه بالتطرف التنفيذي، والانتقال من الكلام إلى الفعل، أي ممارسة الإرهاب والعنف وسفك الدماء دفاعاً عن الأفكار، فهكذا كانت بدايات الإرهاب في حقب زمنية سابقة حين إشتعلت الفكرة في رأي منفذيها بالإنتقال مما كان يوصف بالمعارك الفكرية العبثية التي كانت تتمحور حول ثوابت وأسس راسخة في العقول وأمهات الكتب منذ قرون طويلة، وما أقصده هنا لا يرتبط بجدلية التجديد الفقهي وحدودها ومشروعيتها وغير ذلك من أصول وفروع، حتى لا يقودنا النقاش إلى متاهات لا مخرج منها في هذا الظروف الطارئ.
ما يهمني بالأساس هو التنبيه لخطورة الفوضى واستباحة الفضاء العام والسقوط في أفخاخ التطرف اللفظي والتطرف اللفظي المضاد، عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي، فحقوق المرأة لن يرسخها الصراخ والشتائم والسباب والإتهامات بل تضمنها القوانين والدساتير وقبل ذلك التشريعات السماوية السمحة، والإستنفار المتبادل بين بعض من يزعمون حمل راية الدعوة وبعض المدافعين عن حقوق المرأة ومن ينصبون أنفسهم حماة للمدنية والعصرنة، بات وقوداً يوفر بيئة مثالية لظهور تنظيمات إرهابية جديدة، وعلينا ألا نستهتر بالمقدمات لأن تجارب الماضي تعلمنا أن مثلها قاد عالمنا العربي والإسلامي فيما سبق إلى كارثة الإرهاب التي دفع الكثيرون ثمنها من دمائهم وأمنهم وصولاً إلى دول بأكملها راحت ضحية أفكار ولدت صغيرة على إستحياء حتى تحولت إلى شبح كارثي وداعشية وبائية لم يتراجع خطرها أو ينحسر قليلاً سوى بمعركة تكاتفت فيها الكثير من الدول، في حين لا تزال كامنة تطل برأسها الخبيث لترتكب جرائم آثمة بين الفينة والأخرى.
الخلاصة أن أي تطرف في إبداء الرأي الديني أو الفقهي، أو تفسير للدين وفقاً للهوى اللحظي، أو الرد على ما قد يعتقد أنه إنحراف أو شذوذ في الرأي والتفسير الفقهي، بغض النظر عن أهدافه ومراميه ومنطلقاته، هو دعوة صريحة للعنف والإرهاب وسفك الدماء، وهو وقود للتطرف، وبيئة خصبة لنمو وتكاثر المتطرفين، وعمل مناوئ لقيم التعايش والتسامح وفعل إجرامي مضاد للسلم الاجتماعي.