لا أناقش هنا سيناريو اغتيال احمد الشرع قائد الإدارة السورية الجديدة من باب التمني ولا اثارة الجدل، ولا حتى بناء التوقعات، ولكن من باب الاستغراب مما قاله الشرع نفسه رداً على سؤال مذيع قناة "العربية" طاهر بركة الذي سأله خلال المقابلة الشخصية الشهيرة التي أجراها معه مؤخراً حول عدم وجود إجراءات تأمين كافية حوله، ولقاء الاعلاميين معه بدون إجراءات أمنية معتادة مع الشخصيات الكبيرة، حيث قال الشرع: "لا تقلق .. الأمن لعبتنا"!
بمجرد أن قرأت هذه الإجابة قفز إلى ذهني على الفور وقائع عديدة بعضها حدث مؤخراً كان التفوق فيها لمصلحة من يمتلك التكنولوجيا والمعلومات الاستخباراتية الدقيقة، والمسألة هنا لا تتعلق بطرف دون آخر حتى لايعتقد أحدهم أنني أشكك في قدرات جهات أو أطراف بعينها، فقد تفوقت دولة إسرائيل بشكل كاسح على القدرات الاستخباراتية لإيران وحزب الله واستطاعت اغتيال أبرز قادة "حزب الله" في لبنان، وكذلك فعلت في أسماعيل هنية في عقر دار تحت حماية الحرس الثوري في إيران، والأمر ذاته نجح فيه حزب الله أيضاً حين استهدف منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ما يعني أن الحرب الاستخباراتية تنطوي على كل الاحتمالات ولا شىء مستبعد فيها.
ظهور الشرع بشكل عادي في مرات عديدة وسط الجماهير منذ دخول العاصمة السورية دمشق، قد يستهدف إرسال رسالة بشأن القدرة على السيطرة الأمنية وردع الخصوم والأعداء عن محاولة استهدافه، ولكن هذا كله لا ينفي وجود الخطر، لاسيما في ظل وجود مناطق وعناصر خارج السيطرة حتى الآن، أو لأن فكرة الأمن المطلق ليست موجودة في الواقع بدليل أن دولة متقدمة للغاية في تكنولوجيا التجسس والمراقبة والعمليات الاستخباراتية لم تعد تطمئن لوجود قادتها ومسؤوليها في مناطق معينة داخل البلاد، وهذا أمر بديهي لعلاقة الأمر بكبرياء الدول وهيبتها وصورتها الذهنية.
اغتيال القادة والمسؤولين في ظروف ومراحل انتقالية كالتي تمر بها سوريا مسألة مطروحة بل وبديهية لمن يدير الملف الأمني في هذه الحالات، لذلك استغرب شخصياً من الثقة الزائدة في إجابة الشرع واعتبار أن "الأمن لعبتنا"، ففكر الميلشيات وما تخططه من عمليات اغتيال، أو حتى فكر الدول حين تحاول اغتيال قادة تنظيمات وميلشيات يختلف كثيراً عن أي تخطيط لاستهداف رجل بات واجهة لدولة بحكم الأمر الواقع، والأغرب أن ميلشياته لا تمتلك من القدرات التقنية ولا الاستخباراتية ما يؤهلها لتأمينه بشكل دقيق، ولاسيما أن الأمن في معظم الحالات بات يتطلب تعاوناً معلوماتياً على المستوى الدولي بين أجهزة الاستخبارات المختلفة، وقد لا يستطيع أي جهاز استخبارات توفير أمن رئاسي بشكل تام من دون تبادل المعلومات والتعاون مع أجهزة مناظرة اقليمياً ودولياً.
وإذا تحدثنا بشكل أكثر أريحية، فإن بإمكان العديد من أجهزة الاستخبارات في المنطقة اغتيال الشرع بما تمتلك من قدرات تكنولوجية عسكرية، بل إن هناك ميلشيات معارضة تستطيع تنفيذ هذا الأمر لو أرادت ومن ذلك جماعة الحوثي وحزب الله اللبناني، بحكم ما ثبت لديهما من مسيرات متطورة وصواريخ دقيقة التوجيه، فعلى ماذا إذا يعتمد الشرع في المباهاة بقدرات تنظيمه على توفير الحماية اللازمة له.
لا أحد ينكر تراكم الخبرات لدى "جبهة النصرة" وما بات يعرف لاحقاً بهيئة تحرير الشام طيلة أكثر من 12 عاماً من القتال ضد نظام الأسد، ولكن ما يعرفه هؤلاء أن أمن زعيم ميلشياوي شىء وأمن الساسة والقادة شىء آخر، سواء من حيث احتمالات الاستهداف والأطراف المرشحة للقيام بذلك، أو من حيث وسائل تنفيذ العمليات والتكنولوجيا المستخدمة في العمليات! قناعتي أن الأمر لا يعبر عن سذاجة أمنية من الشرع والمسؤولين عن أمنه الشخصي ولكنها ثقة في وجود تفاهمات ومصالح تتقاطع وتتوقف عند وجوده، بحيث يبدو للكل مصلحة في الحفاظ على حياته، ولست هنا بصدد التشكيك في توجهات وارتباطات وعلاقات الرجل، فالسياسة لعبة معقدة ومتشابكة وليس من بين قواعدها في الوقت المعاصر ظهور زعماء الصدفة، فالمصالح الاستراتيجية الكبيرة لأطراف اللعبة أينما كانت تملي دائماً التوافق على أبطالها وتوقيتات ظهورهم وربما اختفائهم!
ورغم ماسبق، لا يمكن القول بمأمونية اللعبة، فأينما حلت التوافقات وجد دائماً من يناهضها أو من يحيد عنها أو من يريد خلط الأوراق سواء كان هؤلاء من الدول أو من التنظيمات أو حتى من الأفراد/ القادة المنافسون أو المحتملون أو القادمون ولكنهم يستعجلون، بما يدفع للقول بأن مقولة "الأمن لعبتنا" ليست سوى رد ذكي على سؤال مفاجىء لم يجد له الشرع رداً سوى الرجوع لخلفيته وخبراته كقائد لهيئة تحرير الشام وليس للإدارة السورية الجديدة.