في ديسمبر الماضي، وبعد نحو شهرين من اندلاع الحرب في قطاع غزة، كتبت مقالاً بعنوان "سؤال اليوم التالي: مابعد حرب غزة" أشرت فيه إلى أن رؤية دولة إسرائيل تدور حول البقاء في قطاع غزة لفترة مع استبعاد قطعي لأي دور للسلطة الفلسطينية، وقلت وقتذاك أن التأثير الدولي والاقليمي على القرار الإسرائيلي فيما يخص مستقبل قطاع غزة سيكون مرهوناً بنتائج الصراع العسكري الدائر بين الجيش الإسرائيلي وحركة "حماس الإرهابية"، وأنه بالتالي من الصعب ترسيم حدود للأدوار خلال المستقبل المنظور، في وقت لم تزل فيه المعطيات العسكرية، التي سترسم الأدوار غائبة أو غير نهائية على الأقل، وقلنا إنه لا يعتقد أن أي دولة عربية ستقبل بالتورط في مستنقع غزة وتحمل أعباء القطاع من دون الاتفاق على ضمانات وشروط محددة.
مايحدث الآن يطابق ماسبق أن طرحناه، والأمر كله لم يعد سؤالاً أو محوراً للنقاش بل تحول إلى معضلة حقيقية لصيغة اليوم التالي في قطاع غزة، حتى أن السؤال عن سيناريو مابعد الحرب لم يعد يشغل بال حلفاء إسرائيلين الغربيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة فقط، بل بات يشمل شركاء المسؤولية مع نتنياهو نفسه سواء داخل الحكومة الإسرائيلية أو في الجيش، حتى أن هناك تصريحات منسوبة لقيادات عسكرية حالية وسابقة تحمل فيها نتنياهو مسؤولية تدهور الوضع في قطاع غزة بسبب عدم قدرة القرار السياسي على الاستفادة مما تحقق على الأرض ميدانياً/ عسكرياً.
الواضح الآن مع اقتراب الحرب من انهاء شهرها الثامن هو أن حكومة نتنياهو تتمسك بإملاء كلمتها في مستقبل القطاع بحيث تقرر من يدير ماذا، وطبيعة وحدود أدوار كل طرف إقليمي أو دولي، واللافت أن الخلاف الداخلي الإسرائيلي بين القيادتين السياسية والإسرائيلية بات ظاهراً للعيان، فرئيس الأركان هرتسي هاليفي يقول إن جيشَه يتحمَّلُ أكلافاً مضاعفةً جراء غياب حراك سياسي يفترض أن يجيب عن سؤال اليوم التالي للحرب. ولأنه لا جواب، يجد الجيش الإسرائيلي نفسه مضطراً للنزف في جباليا مجدداً، بعد أن كان يفترض أنه انتصر فيها.. وسيكون مضطراً للقتال والنزفِ مجدداً في مناطق أخرى في قطاع غزة من دون أفق، وتصريحات هاليفي نفسها تترددد بصورة أو بأخرى على لسان قادة عسكريين وسياسيين ومحللين وخبراء إسرائيليين، والسبب في ذلك أن هؤلاء جميعاً لا يرون أفقا لتقديم صورة نصر عسكري وإعلانه كتحطيم منظومة حماس والقضاء على قيادتها، او توظيف هذا النصر سياسياً، وأهمية هذا الموضوع تكمن في ضرورته لمحو آثار ماحدث في الهجوم الإرهابي والدموي في السابع من أكتوبر على يحد حركة "حماس الإرهابية"، حيث يتطلب الأمر رداً عسكرياً وسياسياً يطغى على هذه الذكرى في الوعي الجمعي الإسرائيلي.
من الواضح أن رأب الهوة فيما يتعلق بمستقبل القطاع بين موقف نتنياهو من ناحية وقادة الجيش والمعارضة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية نفسها من جهة ثانية بات صعباً للغاية بسبب تباعد المواقف والرؤى، فرئيس الوزراء الإسرائيلي رفض كلياً تصريح وزير الدفاع يواف غالانت، الذي قال إن أي حكم عسكري إسرائيلي لقطاع غزة سيكون دمويا ومكلفا ويجب اتخاذ قرارات حاسمة وصعبة، وهذا يعني معارضته لترك مهمة حكم غزة للجيش الإسرائيلي، وضرورة ايجاد بديل لسلطة "حماس الإرهابية"، واعتقد أن تقديرات غالانت قائمة على الخشية من توريط الجيش الإسرائيلي في حرب استنزاف دموية يضطر فيها لمواجهة تمرد شبيه بالتمرد الذي واجهته القوات الأمريكية في بعض المدن العراقية كالفلوجة وغيرها، وهو موقف يتفق معه الكثير من الخبراء والمتخصصين في ظل الخبرات المتراكمة والمتكررة التي تشير إلى عدم قدرة الجيوش التقليدية على اخماد التمرد، بدليل الخسائر البشرية التي تكبدها الجيش الإسرائيلي مؤخراً سواء بسبب كمائن "حماس الإرهابية"، أو سبب النيران الصديقة وعدم القدرة على السيطرة في لحظات التوتر غير المتوقعة ميدانياً.
نتيناهو يلخص رؤيته في أنه ليس على استعداد "لاستبدال حمستان بفتحستان" ويرى أن "الشرط الأول لليوم التالي هو القضاء على "حماس الإرهابية"، بمعنى أن الجيش سيواصل مهمته حتى القضاء نهائياً على حركة "حماس"، واعتقد أن هذا الهدف الذي يفترض أن يتم النقاش بشأنه مع القادة العسكريين أو بالتنسيق معهم للتعرف إلى امكانية تحققه فعلياً وبشكل حاسم ومؤكد، ينطلق من تمسك نتنياهو بتحقيق واحد من هدفي الحرب اللذين وضعهما في البداية وهما القضاء على حركة "حماس الإرهابية" واستعادة "الرهان"، ووفي ظل انحسار فرص تحقيق الهدف الثاني لأسباب عديدة يصبح تمسكه بالهدف الأول أكثر تشدداً مهما كانت الكلفة البشرية والمادية لأن الأمر فيه ضياع لمستقبله السياسي شخصياً.
معضلة اليوم التالي لحرب غزة باتت مرهونة إذن بشروط نتنياهو طالما بقي في السلطة، وهي أنه "طالما حماس موجودة لا يمكن لاي أحد أن يدخل غزة لإدارتها مدنيا ولا حتى السلطة الفلسطينية"، باعتبارها "سلطة إرهابية" من وجهة نظره، وهنا يجد نفسه على النقيض أيضاً من تصورات الجانب الأمريكي الذي أعلن على لسان وزير الخارجية انتوني بلينكن وبشكل مباشر أن الهجوم الإسرائيلي على رفح لن يقضي على وجود حركة "حماس" في القطاع وقال: "سيبقى آلاف العناصر المسلحين من حماس حتى مع حصول هجوم في رفح"، وأضاف: "رأينا حماس تعود إلى مناطق استولت عليها إسرائيل بدءا من الشمال ووصولا إلى مدينة خان يونس جنوبا"، وهنا يبقى نتنياهو وحيداً في ظل رفض دول عربية معتدلة أيضاً المشاركة في إدارة القطاع في ظل تصورات نتنياهو، الذي يسعى إلى تحقيق مصلحته الشخصية دون أن يراعي مواقف وحسابات وحساسيات هذه الأطراف جميعها.
المعضلة أيضاً فيما سبق كله أن نتنياهو يتجاهل حاجة الجيش الإسرائيلي نفسياً، في هذه البيئة العملياتية المعقدة والخطيرة للغاية، لرؤية واضحة بشأن اليوم التالي لرفع الروح المعنوية للقوات بدلاً من الاكتفاء بفكرة قاتل ثم قاتل حتى صدور تعليمات أخرى.