استغرب كثيرا ً أن البعض لا يزال ينتقد أو يهاجم القمم العربية عندما تخرج بمواقف وبيانات أقل من توقعاته، ويقارن بين استثنائية الظروف والمشهد العربي المأزوم، والقرارات التي توصف بـ "العادية" التي تصدر عن هذه القمم، التي يتفنن المراقبون في وصفها بمفردات عديدة حنقاً وغضباً من نتائجها. واللافت أنه لا أحد ينتظر من القمم العربية المتعاقبة أن تحدث اختراقاً نوعياً فارقاً في الأزمات والقضايا العربية المعقدة، ومع ذلك ينبري في نقدها وطرح الأسئلة حول أسباب هذه الحالة العربية الجماعية المزمنة من الضعف والترهل.
العقدة والحل في حالتنا العربية معروفة للجميع، ولكن العرب يهوون جلد الذات، ويستمتعون بتقدم البراهين والأدلة على داء العجز الجماعي المزمن الذي يعشش في الجسد العربي، وهو بالمناسبة له أسبابه التي يتغذى عليها.
في مقدمة من يتلذذون بالتشكيك في قدرات النظام الجماعي العربي مؤيدي ومناصري التنظيمات المتطرفة الإرهابية التي ترفض فكرة وجود العرب من الأساس وتجادل بمفهوم الأمة وتراه إسلاميا لا عربياً، وهذا أمر لا حاجة لنا الآن بمناقشته وتفنيد جذوره ودوافعه، ثم يأتي من بعد هؤلاء جماعات "الحنجورية" أو الظواهر الصوتية الذين أصوات صراخهم وهديرهم تصم الأذان وهؤلاء من بقايا أيديولوجيات حقبة الخمسينيات والستينيات الذين لا يزالوا يحلمون بـ"رمي إسرائيل في البحر" ويشبعوها شتائم وسباب كلما لاحت لهم الفرصة لذلك وكأن دعم القضية الفلسطينية يتأتي عبر هذه المعارك الكلامية التافهة، الخاوية سوى من الضجيج والتلوث البصري والسمعي.
البعض يحلم بقمة عربية تنعقد في عاصمة عربية في زمن عربي تعلن فيه شن حرب شاملة لاتبقي ولا تذر ضد دولة إسرائيل، وهذا الهراء لايصدر سوى من أحمق أو جاهل بكل ما يدور في العالم من حولنا، وما يقدم لدولة إسرائيل من دعم ومساندة غربية لا تقبل الشك في مواجهة ميلشيا "حماس الإرهابية" وعلينا أن نتصور شكل هذا الدعم فيما لو كان خصم دولة إسرائيل في هذه الحرب دولة أو دولاً عربية في عمل مناف أساساً للقانون والأعراف الدولية، حيث لا يمكن ايجاد ذريعة واحدة تبرر شن مثل هذه الحرب سوى في خيالات هؤلاء المرضى من دعاة الدفاع عن الشعب الفلسطيني.
اللافت في كل ما يحدث أن أكثر الدول والأطراف الاقليمية اثارة للضوضاء بشأن حماية الشعب الفلسطيني تنقسم إلى قسمين أولهما يضر بالشعب الفلسطيني وقضيته، وإلا فليخبرني أحدهم عن النتيجة التي تحققت على أرض الواقع من ممارسات الحوثي الإرهابية الذي يزعم الدفاع عن غزة سوى بالإضرار بحركة التجارة البحرية الدولية، وكذلك بعوائد مصر من حركة عبور السفن عبر قناة السويس؟ وثاني هذه الأطراف هم المزايدين التقليديين الذين يتاجرون بالقضية والشعب الفلسطيني ويستغلونها في تحقيق أهداف ومصالح سياسية واستراتيجية عبر ادعاءات كاذبة ومواجهات لا تتجاوز الكلام والشعارات مع دولة إسرائيل وداعميها.
لست هنا بصدد الدفاع عن النظام المؤسسي الجماعي العربي، الذي أرى أن إخفاقاته الأساسية ليست في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، ولكن على صعيد اثبات الوجود والسقوط في فخ التكلس المؤسسي والعجر عن الاضطلاع بأي دور مؤسسي مفيد للشعوب العربية بشكل عام في مجالات التنمية.
القمم العربية المتوالية أراها أزمة لمن يستضيفها، حيث ترتبط به حكايات واتهامات الفشل والإحباط من دون ذنب اقترفه سوى استضافة ـ ولو بشكل اضطراري أو تنظيمي ـ لهذا الحشد العربي الكبير من القادة والرؤساء والوزراء، والغريب أن الكل يستبق هذه القمم بتأكيدات عن انعدام الفرص وانحسار هامش المناورة ومحدودية القدرات الدبلوماسية والسياسية، ثم نجده بعدها يشن هجوماً على البيانات الصادرة عن هذه القمم وكأن الأمر كان مفاجأة له!
العذر الوحيد للقمم العربية وجامعتها أن عصرنا لم يعد عصر التكتلات التقليدية، التي اثبتت عدم جدواها ومحدودية فاعليتها سواء في إدارة الأزمات الدولية والتعامل معها، أو في قيادة جهود التعاون الدولي وتنفيذ مواثيق ومبادىء هذه المؤسسات والتكتلات وفي مقدمة ذلك تأتي الأمم المتحدة، التي أضحت مؤسسة تشبه مؤسساتنا العربية بامتياز، حيث القرارات التي لا تجد طريقاً للتنفيذ، وحيث لا خيارات سوى الإدانة والشجب ودعوات التسول الدبلوماسي والسياسي التي لا تجد من يسمعها.
لا نريد القول أن هذا هو عصر الميلشيات الارهابية والدول المارقة، التي تتلاعب بالأمن والاستقرار العالمي في بيئة استراتيجية دولية تعاني السيولة والفوضى وغياب القيادة، وقناعتي أن هذه مرحلة انتقالية لا بد منها للنظام العالمي، تتغذى على الصراعات الجيواستراتيجية المتنامية، ولكنها ليست خياراً حتمياً للعالم، فهناك مخارج مطروحة وهناك أطراف دولية وإقليمية تدفع بقوة باتجاه الأمن والاستقرار ولكن غياب الحوار وغلبة التهور والمصالح الضيقة يحولان دون الاستماع لصوت العقل في الأزمات، حيث يفترض البحث عن صيغ حلول تقوم على "رابح ـ رابح" ولا غالب ولا مغلوب وحلول وسطية تضمن مصالح الشعوب ولا تخضع لأهواء المتطرفين والمزايدين والارهابيين، ولا تحقق مصالحهم حتى ولو من دون قصد.
ليس سراً القول بأن ما يعرف بالنظام الاقليمي العربي يعاني التفكك والتشرذم منذ الفوضى التي انتشرت في العديد من دول المنطقة منذ عام 2011، حيث تسببت هذه الأزمات في غياب مفهوم مفهوم الدولة بمعناه السياسي في بعض الحالات عربياً، ناهيك عن دخول بعضها الآخر في أزمات وصراعات داخلية مستمرة حتى اليوم، وبالتالي يصبح الرهان على موقف عربي موحد تجاه القضية الفلسطينية أو غيرها هو نوع من التحليل بالتمني، ولكن علينا الاعتراف أيضاً بأن الأمر ليس مرهوناً بأكمله بالواقع العربي المهترىء، ولا حتى بالدعم الغربي اللامحدود لدولة إسرائيل، بل بالفلسطينيين أنفسهم ـ سلطة لا وطنية وميلشيات ـ والكل يعرف أن البحث عن مخرج للقضية يبدأ من اعتراف الوجوه التي تسيطر على المشهد بأن دورها انتهى وأن الآوان قد آن لحلول واقعية حقيقية وأن مرحلة المتاجرة بالقضية الفلسطينية قد ولت وانقضت وأنه لا أحد يستطيع تحمل الفساد وعبث هؤلاء العابثين أكثر من ذلك، وعلينا أن نعترف أن الكل وجد نفسه في ورطة من صناعة ميلشيات إرهابية تأتمر بأوامر أطراف غير عربية، ولا تبحث عن مصالح أبعد ماتكون عن حماية المدنيين أو حتى قيام دولة فلسطينية لم تدرج هذه الميلشيات أساساً ضمن مطالبها لعقد أي اتفاق تهدئة!