عادت الأضواء والبريق مجدداً إلى الدبلوماسية السعودية على خلفية إستضافت المملكة العربية السعودية جولة محادثات بشأن أوكرانيا يوم السبت 5 أغسطس الحالي. ورغم أن روسيا لم تشارك في المحادثات فقد كان هناك ترحيب روسي معلن بالجهود السعودية من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية وانهاء الحرب التي تحولت إلى معضلة صعبة تواجه المجتمع الدولي ككل، وأن عدم مشاركة روسيا في مباحثات جدة وقبلها في اجتماع كوبنهاجن لبحث الأزمة، مرتبط بموقف روسي مبدئي يرهن مشاركة موسكو في أي محادثات سلام مع كييف باعتراف الأخيرة بـ"بالحقائق الجديدة" على الأرض، أي بضم روسيا رسمياً لجزء من الأراضي الأوكرانية، لكن الموقف الروسي المعلن على الأقل يرحب بالمبادرتين الصينية والأفريقية كـ"أساس للسلام"، وكرر الرئيس بوتين غير مرة عدم رفض بلاده إجراء أي محادثات تتعلق بأوكرانيا.
كعادتها، فإن الآلة الدبلوماسية السعودية تعمل في جُهد وصمت، ومن الموثوق منه أن المملكة تركز من بداية الحرب في أوكرانيا على بذل كل جهد ممكن بالتعاون مع الدول الصديقة والشقيقة من أجل البحث عن مخارج مناسبة من الأزمة، وهذه الكياسة السعودية في التعامل مع ملف ينطوي على درجة عالية من الحساسية يمكن أن تكون قاعدة لإحداث حراك عالمي يدفع باتجاه بلورة صيغ وايجاد آليات مناسبة للخروج من هذا الوضع المأزوم عالمياً، والذي ينجرف تدريجياً باتجاه صراع روسي ـ أطلسي يضع العالم على حرب عالمية ثالثة لا يعلم أحد حدود عواقبها الكارثية.
المحادثات التي اخذت مكانها في جدة، وجهت فيها الدعوة ـ بحسب تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية إلى أوكرانيا ودول غربية، ونحو 30 دولة منها الهند والبرازيل وبريطانيا وجنوب افريقيا وبولندا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإندونيسيا والمكسيك ومصر وزامبيا، وهذا يعني أن المملكة قد فتحت الباب واسعاً أمام اول نقاش دولي جاد للأزمة، وهي خطوة تحسب للمملكة العربية السعودية في ظل حالة الهدوء والصمت التي تخيم على المؤسسات الدولية المعنية، فضلاً عن عدم قدرة قوى دولية مثل الصين على إحداث حلحلة حقيقية في الأزمة بسبب الشكوك التي ينظر بها الغرب تجاه الموقف الصيني، الذي تراه عواصم غربية عدة داعماً لروسيا ومسانداً لها، سياسياً على الأقل، في الأزمة، ناهيك عن القلق الذي تعبر عنه الولايات المتحدة بين الفينة والأخرى بشأن احتمالية تزويد بكين لموسكو بأسلحة وعتاد لتعزيز موقف الجيش الروسي في مواجهة التدفقات العسكرية الأطلسية الداعمة للجيش الأوكراني.
موقع المملكة العربية السعودية على الخارطة الجيوسياسية العالمية يؤهلها دائما للعب دور حيوي مؤثر في حلحلة الأزمة الأوكرانية، ويميزها عن أي طرف إقليمي أو دولي آخر، سواء بحكم علاقاتها الوثيقة للغاية مع روسيا والولايات المتحدة في آن معاً، أو بحكم مواقفها الدبلوماسية المتزنة للغاية منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وهو ما يمكن ترجمته إلى رصيد عميق من الثقة والموثوقية من جانب جميع الأطراف، وفوق هذا وذلك، فإن الثقل الإستراتيجي للمملكة العربية السعودية يمكّنها من حشد الدعم والتأييد الدولي لكل طرح تم التوصل إليه في جولة محادثات جدة.
قناعتي أن الموقف الروسي تجاه عملية السلام يرتبط بشكل كبير بالوضع الميداني على الأرض، حيث يسعى الكرملين للوصول إلى أبعد حد ممكن في تحقيق الأهداف التي وضعها قبل بداية العملية العسكرية، حيث يدرك الرئيس بوتين منطلقاً من موروث خبرات تاريخي روسي هائل في مثل هذه المواقف والأزمات الكبرى أن الجلوس على مائدة التفاوض ليس سهلاً وسيضطر الجانبين إلى تقديم تنازلات ما وصولاً إلى حلول توافقية، وهو ما يستلزم بدوره ضمان أكبر قدر من المكاسب التي تعزز موقفه التفاوضي وتقلل من الضغوط وفرص التنازل المحتملة، وهو الموقف ذاته الذي يحكم الموقف الأوكراني، مع فارق أن هناك تراجع تكتيكي ملحوظ في منسوب التشدد لدى كييف بحكم فشل/ عدم فاعلية الهجوم المضاد الذي تشنه القوات الأوكرانية منذ أشهر من دون تحقيق نتائج ايجابية ملموسة.
بلاشك أيضاً أن محادثات جدة تأتي في توقيت جيد للغاية لجهة الموقف الميداني، حيث تبدو الشواهد واضحة على تأزم متزايد في مواقف الأطراف المعنية كافة، وليس فقط في موقف كل من روسيا وأوكرانيا، فضلاً عن تنامي موجة غضب دولي في ظل الارتفاعات القياسية المتوقعة في أسعار الغذاء عالمياً بسبب الغاء اتفاقية الحبوب الأوكرانية وانسحاب روسيا منها، وهو ما يدفع القوى الاقليمية والدولية لممارسة المزيد من الضغوط بما يمّكن الدول المستضيفة (المملكة العربية السعودية) من حشد رأي عام دولي داعم للبحث عن تسوية للأزمة الأوكرانية وايجاد حلول لها في أقرب وقت ممكن.
المؤكد أن المملكة قد مهدت لدورها في أزمة أوكرانيا عبر سلسلة من الجهود المتواصلة والفاعلة على مدى الأشهر الماضية، ومنها دور وساطة ناجح لتبادل الأسرى الأجانب في سبتمبر الماضي، واستضافة الرئيس أوكراني فولوديمير زيلينسكي في القمة العربية التي عقدت بجدة، والزيارة المهمة التي قام بها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي إلى فرنسا، حيث شارك في قمة "من أجل ميثاق مالي عالمي جديد" في باريس خلال يومي 22 و23 يونيو الماضي، فضلاً عن الاتصالات والعلاقات الوثيقة التي تربط بين الرئيس الروسي بوتين وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ولو أضفنا لذلك ثقل المملكة وقوتها الاقتصادية والنفطية المؤثرة من دون شك في إدارة أي حوار مع الغرب، وكذلك جسور تواصلها المفتوحة مع كافة القوى الدولية كالصين والهند والاتحاد الأوروبي وغيرهم، فإن الدور السعودي يبدو أكثر الأدوار قدرة على الفعل والتأثير في حلحلة الأزمة الأوكرانية، لاسيما في ظل قناعة المملكة بل والتزامها بالعمل في هذا الاتجاه من أجل ترسيخ الأمن والسلم الدوليين.
الدور السعودي المتنامي دولياً هو انعكاس للاحترام الذي تحظى به الدبلوماسية السعودية، وترجمة ذكية من القيادة السعودية لقوة المملكة ومكانتها، وهو إضافة نوعية كبرى لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط بشكل عام ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص.