الدورة العادية الثانية لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة لم تكن كسابقاتها، والأمر هنا ليس استنتاجاً تحليلاً سريعاً من جانبي، بل يستند إلى العديد من الأدلة والبراهين، التي لا تقتصر على عودة سوريا إلى حاضنتها المؤسسية العربية بعد أكثر من عقد من العزلة والإنقطاع، بل هناك أسانيد أخرى منها الدور القيادي السعودي البارز، الذي تجلى قبل القمة وأثنائها، فمشهد القمة لم يأت من دون جهد سياسي ودبلوماسي سعودي بذل على مدار الأشهر الماضية، وتحديداً منذ قمة الجزائر في نوفمبر 2022، لإخراج هذا المشهد، الذي يطوي صفحة عربية بائسة من العمل العربي المشترك، ويدشن صفحة جديدة، قد لا تأت بجديد نوعي على صعيد المخرجات المؤسسية، ولكنها ستختلف بالتأكيد على الأقل على المستوى التنظيمي المؤسسي، ومن حيث الشكل العام، بانهاء حقبة الإنقسام والتشرذم التي خيمت على المشهد العربي طيلة العقد الماضي.
عودة سوريا عربياً، رغم الإنتقادات والرفض الغربي، لها دلالات حيوية، بعضها يتعلق باستراتيجية مغايرة تنتهجها الدبلوماسية السعودية في إدارة العلاقات والتحالفات مع العواصم الغربية الكبرى، وبعضها الآخر يتعلق بتحقيق إختراق نوعي مهم يمهد لفتح ملف الأزمة السورية وحلحلته ومناقشته مع دمشق بقلب مفتوح داخل النطاق العربي ـ العربي، ولاسيما في ملفات وقضايا مؤثرة مثل اللاجئين السوريين، ولاسيما في حال فوز مرشح المعارضة التركية في جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة المقررة في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، حيث تعهد بإعادة جميع اللاجئين السوريين في تركيا في غضون عامين، وهو أمر سيفرض تحدياً على سوريا، الدولة والنظام معاً، ويتطلب تكاتفاً عربياً مع دمشق كي لا ينتهي الأمر إلى مأساة انسانية، وهناك كذلك قضايا تهريب المخدرات واستئصال الإرهاب من أرض سوريا، وتحدي إعادة الإعمار، ومعظمها ملفات متشابكة وذات تأثيرات متبادلة، وتأجيلها لن يصب سوى في مصلحة تضخم خطرها وتأثيراتها السلبية.
برزت بشدة، القيادة السعودية للمرحلة الراهنة من العمل العربي المشترك قبل إنعقاد القمة في استضافة محادثات طرفي الصراع بالسودان، والتوصل إلى إعلان مبادىء مهم يمثل نجاحاً كبيراً في ظل فشل جميع الوساطات والوسطاء الاقليميين والدوليين في مجرد جمع الطرفين على طاولة واحدة، حيث يمثل الدور السعودي هنا حلقة إنقاذ مهمة يحتاجها السودان والسودانيين بشدة في هذه الأزمة التي تنزلق بسرعة باتجاه مرحلة اللاعودة.
ثمة نقطة أخرى تميزت بها قمة جدة، وهي استضافة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهي لقطة سياسية ذكية رغم تحفظات وانتقادات البعض، لأنها من وجهة نظري، تبعث برسالة مهمة للعالم بأن الدبلوماسية العربية بقيادة المملكة العربية السعودية ليست تابعة ولا منقادة، ولا تميل للتحيز لطرف على حساب آخر في الأزمة الأوكرانية، وتمثل نسفاً للكثير من طروحات الغرب وفرضياته حول توجهات السياسة الخارجية السعودية بشكل خاص والخليجية بشكل عام تجاه الأزمة، وهو ماعبرت عنه بوضوح الكلمة التي القاها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والتي استهلها سموه بالقول برسالة مباشرة مفادها "نؤكد لدول الجوار، وللأصدقاء في الغرب والشرق، أننا ماضون للسلام والخير والتعاون والبناء، بما يحقق مصالح شعوبنا، ويصون حقوق أمتنا، وأننا لن نسمح بأن تتحول منطقتنا إلى ميادين للصراعات، ويكفينا مع طي صفحة الماضي تذكر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة، وعانت منها شعوبها وتعثرت بسببها مسيرة التنمية"، هذه الرسالة واضحة الكلمات والمعاني والدلالات تعني أن العرب ليسوا طرفاً في أي صراع يخص آخرين، ولن يخوضوا أي معارك نيابة عن غيرهم، ولن يسمحوا بأن تتحول منطقتهم إلى ساحة حروب بالوكالة، وأن الهدف العربي الواضح هو السلام والتعاون والبناء.
القيادة السعودية للعمل العربي الجماعي تفتح آفاق فرص جديدة، لما للمملكة من ثقل إستراتيجي إقليمي ودولي كبير، ولما تتميز به المرحلة الراهنة في الدبلوماسية السعودية من فاعلية ومرونة وايقاع ديناميكي سريع، يسهم في حلحلة القضايا والملفات المعقدة، وقد تجلى ذلك بوضوح وبقوة في ملفات مثل سوريا، التي عادت لحاضنتها العربية بفعل حراك سعودي دبلوماسي تجاوز الخلافات العربية ـ العربية بشأن بناء موقف مشترك تجاه سوريا، كما نجحت في تدشين حوار إيجابي بين فرقاء السودان، وكذلك تفعل في اليمن ولبنان وغيرها من الملفات العربية المعقدة، التي تحتاج إلى قوة دفع عربية مخلصة لكي تخرج من بؤرة التأزم التي تعانيها.