يشعر الكثير من العرب بالتفاؤل إزاء القمة العربية التي إنعقدت مؤخراً في جدة، وتحديداً لما تتسم به دبلوماسية المملكة العربية السعودية، الدولة المضيفة للقمة، من فاعلية وقدرة على التأثير والتحرك الفاعل بدعم وتنسيق مع مراكز القرار و التأثير العربية الأخرى، وهذه مسألة في غاية الأهمية في ظل الأحداث الملتهبة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والعالم، ناهيك عن التقديرات التي تشير إلى وجود إحتمالية عالية لتطور الأزمة الأوكرانية إلى صراع دولي واسع خلال الفترة المقبلة.
البعض الآخر ـ عربياً ـ كان ينتظر من قمة جدة أن تختلف "خطابياً" عن سابقاتها من القمم، وأن تشهد طرحاً لحلول وبدائل غير تقليدية للأزمات والصراعات التي تعانيها المنطقة العربية، وهذا "أمل" مشروع بالطبع، ولكنه يفتقر إلى كيفية تنفيذه على أرض الواقع، فالأزمات لا تحل بالخطب والكلمات الرنانة، ولا نبالغ هنا إن قلنا أن أحد أهم مسببات الواقع العربي المأزوم هو أنه حصاد مراحل سابقة طغت عليها الشعارات والخطب النارية والضجيج من دون طحن!
إذا تجاهلت كلمة ما أهمية القضية الفلسطينية و"مركزيتها" هوجم صاحبها، وإذا حرصت عليها هوجم كذلك قائلها بدعوى إجترار المواقف والكلمات من دون فعل، ولا يدرى أحد ماذا ينتظر هؤلاء المتربصين، وماهو تصورهم لطبيعة "الفعل"، الذي ينادون به من دون كلل أو ملل، وكيف كان يمكن أن تخرج "قمة جدة" وأي ثوب ترتدي كي تختلف عن غيرها من القمم العربية، وهل كان هؤلاء ينتظرون أن تقود الدبلوماسية السعودية أشقائها العرب كي يعلنوا من جدة حرباً على هذا أو ذلك من الأطراف ذات الصلة بالأزمات العربية كي تثبت نجاح القمة؟ ولماذا لم ينصت هؤلاء أو يمنحوا أنفسهم فرصة قراءة كلمة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، وما تضمنته من رسائل واضحة بشأن العمل باتجاه تحقيق الأمن والاستقرار ونزع فتيل الأزمات وانهاء الصراعات؟.
يرى بعض المراقبين العرب أن قمة جدة العربية طغى عليها الإحباط شعوراً بدا على ملامح الحضور، وهذا أمر لا علاقة له بمخرجات القمة ولا بالدولة المضيفة، وعلينا أن نعترف بأن المناخ السائد إقليمياً ودولياً لا يوحي سوى بالإحباط، فهناك عنف متصاعد بين إسرائيل والفلسطينيين، وهناك صراع عسكري دموي ومفتوح بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، وهناك أزمات خانقة في لبنان وسوريا واليمن وليبيا، وهناك ظروف إقتصادية قاسية وغير مسبوقة تعانيها دول عربية أخرى، وهناك أجواء دولية ملبدة بحرب عالمية جديدة قد تأتي على الأخضر واليابس، وبالتالي فالأجواء لا يمكن أن تكون طبيعية، ولو أن القمة طغت عليها الضحكات والابتسامات لقال هؤلاء أيضاً أن القادة العرب لا يبالون بالدماء التي تسيل في السودان ولا ما يحدث داخل الأراضي الفلسطينية، ولا معاناة هذا الشعب أو ذاك!
معضلة البعض منا ،كعرب، أن هناك من يعتقد أن أزماتنا يمكن حلها ببضعة أسطر في خطاب عابر، أو بمقترح لتعزيز العمل العربي المشترك، ولا يدري هؤلاء أن خطوة كعودة سوريا، بكل ما لهذا البلد من حضور وتأثير في إطاره العربي، تمثل حراكاً سياسياً إيجابياً مهماً للغاية، لأنه من دون سوريا وفي غيابها، يصعب الحديث عن رؤية عربية جماعية للأمن الإقليمي، ولا بناء تصور إستراتيجي واضح عن علاقات عربية مع القوى الاقليمية المؤثرة مثل إسرائيل وتركيا وإيران.
المنتقدون الغربيون لهم أيضاً وجهات نظر أخرى، منها أن سوريا لم تقدم تنازلاً واحداً مقابل العودة للجامعة العربية، وبما أن العرب لم يقدموا ـ واقعياً ـ لسوريا أيضاً شىء ـ حتى الآن ـ سوى الترحيب بعودتها، فإن التصور القائل بأن هذه العودة كان تستحق تنازلاً ما، هو أمر غير منطقيا، لأن تجربة عقد كامل وأكثر قد اثبتت أن البحث عن حلول ومخارج لمعاناة الشعب السوري لن تتحقق بمعزل عن وجود قنوات إتصال وتواصل مباشر مع دمشق، والأمر هنا يبدو أكثر خطورة في ظل تداعيات إستمرار الوضع الراهن في سوريا على الأمن الإقليمي، ولاسيما في ظل إنتشار أنشطة الإرهاب وتهريب المخدرات واللجوء وغيرها. ولنكن أكثر وضوحاً، ولنعترف بأن إستمرار عزلة سوريا، الدولة والشعب، لفترة تزيد عن عقد من الزمن ليس هو البديل المنطقي، والمسألة هنا لا تتعلق بالنظام ذاته، وعلى الجميع الاعتراف بأن مواصلة السياسات الراهنة ضد سوريا لا يعني سوى غياباً للواقعية السياسية، وتأجيلا للحلول بل وهروباً إلى الأمام، فضلاً عن المزيد من المعاناة للملايين، والمزيد من الأخطاء الإستراتيجية أقلها السماح لأطراف إقليمية أخرى بمواصلة التمدد استراتيجياً في سوريا على حساب شعبها وأيضاً على حساب المصالح الإستراتيجية العربية.
الغرب الذي يعتلي مقعد الحكماء يفشل في معالجة أزمة أوكرانيا ويثير تكهنات بالتورط في حرب عالمية ثالثة قد تكون نووية مع دولة كبرى مثل روسيا، ومع ذلك يصر على قدرته على توجيه النصيحة للعرب بشأن سوريا وغيرها، متجاهلاً أن الثابت الوحيد في عالم السياسة هو التغير، وأن المصالح هي العنصر الحاكم في بناء المواقف والرؤى، فأزمة كالتي تعانيها سوريا لن تحل بالقطيعة والعزلة، لدولة تعاني أجزاء كثير من أراضيها من سيطرة جماعات وميلشيات تابعة لأطراف إقليمية ودولية عدة، ونحو نصف شعبها فر من دياره في نزوح داخلي ولجوء خارجي، وليس هناك من بديل عقلاني سوى ما ذكره وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود: "من الضروري أن نقف معاً ونحاول جاهدين تعزيز العمل العربي المشترك لمواجهتها".
البعض يرى في عودة سوريا للجامعة العربية انتصار دبلوماسي للرئيس بشار الأسد، وهو كذلك بالفعل في حسابات التحليل السياسي، ولكنه بالمقابل أيضاً يمثل انتصاراً للإجماع العربي، الذي استطاع أخيراً تجاوز عقبة الخلاف حول سوريا، بفعل جهد دبلوماسي سعودي مكثف وتطغى عليه الإحترافية، نجح في بلورة صيغة توافقية وحلول سياسية واقعية وبناء أرضية مشتركة وقف عليها العرب جميعاً في جدة.