لا خلاف على التطور التنموي المتسارع الذي تشهده المملكة العربية السعودية يلفت إنتباه العالم أجمع، ولاسيما أن هذا التطور لا ينصب على قطاع أو جانب واحد من الحياة في المملكة، بل يمتد ليشمل جميع أوجه الحياة في إطار تخطيط تنموي شامل يغير بالفعل وجه الحياة ويضع المملكة على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخها.
من بين الأمور المثيرة للجدل ـ إعلامياً على الأقل ـ ما يشهده قطاع الرياضة السعودي من تغيرات تشمل إستقطاب مشاهير اللاعبين للإنضمام إلى دوري كرة القدم بالمملكة مقابل الحصول على مبالغ مالية كبيرة في إطار صفقات تحظى بمتابعة عالمية ملحوظة.
مناقشة جدوى هذه الصفقات تمثل أحد إهتمامات وسائل التواصل الاجتماعي العربية، وهذا أمر مفهوم، ولكن اللافت أن معظم هذه النقاشات، وربما جميعها يغيب عنها البعد الأشمل لما يحدث، فالمسألة لا تستهدف مجرد جذب الأضواء كما يعتقد الكثيرون، ولكنها تخضع تخضع لحسابات دقيقة بعضها رياضي وأغلبها سياسي وإعلامي/ تسويقي، يتجاوز حدود الرياضة ويطال ما يحدث في المملكة من طفرات تنموية كبرى بشكل عام.
تحضرني أيضاً هنا فكرة "تلميع الصورة" أو "غسل السمعة رياضياً"، بحسب ما تتداوله بعض التقارير الإعلامية الغربية، وهي عبارة عن إستنتاجات معزولة عن السياق الأشمل لما يحدث كما أشرت سالفاً، فالمملكة العربية السعودية لا تنفق بالتأكيد هذه المبالغ الضخمة من أجل هدف كان يمكن تحقيقه بصور أخرى وبتكلفة أقل كثيراً، وكل من يعمل في مجال العلاقات العامة وأنشطتها يدرك هذه الحقيقة جيداً، وبالتالي فهناك هدف إستراتيجي حقيقي يجري تنفيذه على أرض الواقع. ناهيك عن أن هذه الصفقات تحدث في جميع أنحاء العالم والكل يعلم كرة القدم قد تحولت إلى صناعة واقتصاد ضخم يدار بعقلية إستثمارية إحترافية للغاية سواء في المملكة أو غيرها من بلاد العالم.
المسألة إذاً، برأيي، لا تتعلق فقط بالترويج لصور ذهنية جديدة وترسيخ "براند" جديد للمملكة عالمياً، مع أهمية ذلك للعملية التنموية الجارية، ولكنها تتعلق كذلك بترسيخ أنماط جديدة من التفكير لدى الأجيال الجديدة في المملكة، وبناء قاطرات جديدة للتنمية في مختلف قطاعات التنمية، وكل ما له علاقة بترسيخ قواعد القوة الشامل للمملكة عالمياً، بما فيها القوة الناعمة، التي تعد الرياضة والفنون والثقافة أبرز أعمدتها. وقد رأينا كيف أن المنتخب السعودي لكرة القدم قد ظهر في بطولة كأس العالم الأخيرة التي اقيمت بقطر بشكل مختلف يوحي بأن ثمة توجه جديد يتم التخطيط له، وأن مرحلة الإكتفاء بالحضور والمشاركة ومراكمة سجلات التواجد في مثل هذه البطولات الكبرى، تشهد نقلة نوعية باتجاه منافسة الكبار في الرياضة كما في الاقتصاد والسياسة والعلوم والتكنولوجيا والصناعة والفنون والثقافة وغيرها.
فهم مايحدث وما يدور يتطلب برأيي تجنب/ تفادي فصل الملفات، ورؤية ما يحدث في الرياضة أو الفنون أو الثقافة بمعزل عن الآخر وعن السياق التنموي العام وبقية جوانب الطفرة التخطيطية والتنفيذية الشاملة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، والتي تجري في إطار رؤية 2030، التي تحرك كل تفاصيل الحياة اليومية في البلاد خلال المرحلة الراهنة، وهي مرحلة يبدو الانسان السعودي أبرز مافيها ورأس حربتها وأحد أهم أهدافها، فقد بات العالم يرى انطلاقة للشباب السعودي في مختلف مجالات الحياة، ومن يتابع ما ينشر عبر الإعلام الالكتروني يدرك جيداً كيف تتسارع وتيرة التغيير السعودية بشكل مبهر يصعب ملاحقته في بعض المجالات مثل الإعلام وتقنياته، باعتبارها من أقرب المجالات التي يمكن متابعتها للمراقبين والمتخصصين.
في الطب والصحة وفي العلوم والصناعة والسياحة والاستثمارات تتحول الحياة في المملكة بشكل مبهر، وكرة القدم ليست إستثناء مما يحدث حولها في البلاد، بل ربما نجد أنها لا تلاحق مايحدث في قطاعات أخرى بالمملكة بنفس الوتيرة، ونجد أن تنفيذ أهداف رؤية 2030 يحتاج بالفعل إلى هذه السرعة المحسوبة جيداً، لأن الزمن يمضي وسقف التطلعات والطموحات التي يتابعها جيداً ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان، عال للغاية ويحتاج إلى عمل دؤوب وقفزات لا تقف عند القيود والمحاذير التقليدية.
الأفكار غير التقليدية ليست طارئة على الفكر السعودي بشكل عام، والمملكة لم تأت بشىء من فراغ فهي تستعيد ماضيها وتستأنف مسيرتها الحضارية، وما نراه في الثقافة والرياضة هو شاهد على ذلك، ويعد إستجابة إستراتيجية واعية للمتغيرات التي تشهدها المملكة لاسيما على الصعيد السكاني، حيث ترتفع ـ بتسارع ـ معدلات نمو الشباب الحاصل على تعليم جيد، وحيث ترتفع نسب السائحين السعوديين الذين يجوبون العالم، بكل ما يعنيه ذلك من إحتياجات لخلق فرص عمل والتوسع في القطاعات الواعدة، والاستثمار في قطاعات الترفيه والثقافة والفنون والرياضة، وكلها ضمن أهداف برنامج "جودة الحياة" الذي أطلق عام 2018، ويسعى لاستحداث خيارات جديدة تعزز مشاركة المواطن والمقيم والزائر في الأنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية وبما يسهم في توليد الوظائف وتنويع النشاط الاقتصادي وتعزيز مكانة مدن المملكة في إطار المعايير الدولية.
المسألة تتعلق بتحول نوعي شامل يستهدف إحداث نقلة كبرى في جميع القطاعات التنموية، وقبلها الاستثمار في الموارد البشرية السعودية، وهي تغيرات أشمل وأعمق من فكرة صفقات اللاعبين الكبار التي لا تبدو في سياق معزول عما يحدث بشكل عام من تطور متسارع بالمملكة العربية السعودية.