منذ بداية الأزمة الحاصلة في السودان، حذرتٌ من أن ينزلق هذا الصراع إلى مسار مفتوح لا نهاية له، وأن تتحول الأزمة إلى قائمة طويلة من الأزمات المنسية إقليمياً ودولياً، لاسيما في ظل توافر العناصر التي ترجح هذه الفرضية التي لا يتمناه أحد، وفي مقدمتها عدم وجود كوابح لدى طرفي الصراع وطغيان شهوة الإنتقام والرغبة في تحقيق إنتصار عسكري حاسم على "الجنرالين" اللذين يبدو أنهما لا يمتلكان أي نية للتراجع عما يفعلان على الأقل في المدى المنظور.
بالأمس، تناقلت التقارير المتلفزة مشاهد كارثية بكل معنى الكلمة لما حدث في مطار الخرطوم الدولي دمار وتخريب متعمد على يد المتقاتلين في هذا البلد العربي، في إشارة لا تخطئها عين مراقب على أن السودان قد إنزلق إلى مرحلة عزلة دولية يعلم الله مداها وعواقبها.
هذه الجرائم التي ارتكبت في مرافق مدنية كالمطارات والمستشفيات والمدارس ومحطات المياه وغيرها ليست الشاهد الأوحد على ما حل بالسودان من كارثة، وأن القادم الأسوأ قد انتقل من خانة التكهنات إلى مربع التأكيدات، ولاسيما بعد إنهيار الهدنة وإعلان الوسيطين السعودي والأمريكي تعليق محادثات جدة واتهام الطرفين بعدم الإلتزام بوقف إطلاق النار وعرقلة جهود الاغاثة والتهدئة.
ورغم أن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة قد حرصتا على إعلان مواصلة الجهود من أجل بناء الثقة بين طرفي النزاع والسعي لإستئناف المفاوضات، فإن الخاسر الأكبر في هذه الجولة هما المتصارعين أنفسهم الذين فقدوا تعاطف معظم القوى الإقليمية والدولية بعد أن اثبتوا عدم حرصهما على بلديهما وشعبيهما والتمادي في القتال رغم كل الخسائر البشرية والمادية وعدم قدرة أي طرف من الطرفين على تحقيق أي تقدم نوعي يمكن أن يؤشر إلى حسم عسكري قريب للصراع، وتحول الأمر إلى قتال من أجل القتال من دون أي وعي بعواقب هذا المشهد العبثي.
الصراع السوداني هذه المرة لا يشبه سوابق شهدها هذا البلد في سلسلة مميتة من الصراعات والحروب الأهلية، فما يحترق الآن هو المدن الكبرى، مثل الخرطوم وأم درمان، حيث تنزلق مؤسسات الدولة بأكملها إلى مصير تلوح معالمه في الأفق.
المعضلة الكبرى، بنظري، في الصراع السوداني هو أن يد المجتمع الدولي تبدو مغلولة، ولا حيلة لأي دولة أو طرف مؤسسي دولي أو إقليمي على طرح حلول فاعلة في التعامل مع هذه الأزمة، فالعقوبات التي فرضتها مؤخراً الولايات المتحدة على طرفي الصراع قد لا تبدو أداة ضغط حقيقية/ فاعلة، بقدر ما هي رسالة غضب، لاسيما أن آلية العقوبات نفسها تحتاج إلى مدى زمنى طويل لتحقيق أثرها، ناهيك عن الشكوك التي تحيط بتطبيقها في ظل تضارب المصالح الدولية وصراعات النفوذ والتدخلات الخارجية التي لا يبدو السودان بمنأى عنها، بينما تبدو بقية المؤسسات الاقليمية والدولية غائبة أو مغيبة عما يحدث في السودان، بعد أن توقفت جهود الإتحاد الإفريقي على مستوى الرؤساء، وفشلت جهود لجنة الإتصال الدولية المكونة من الإتحاد الأفريقي والأمم المتحدة ومنظمة (إيغاد) وجامعة الدول العربية بالاضافة إلى عدد من المنظمات الإنسانية الدولية في اقناع طرفي الصراع بالحلول المطروحة وخارطة الطريق التي وضعتها، في حين تركز الأمم المتحدة على تقديم المساعدات الاغاثية والانسانية وحصر الخسائر وأعداد النازحين واللاجئين، وهي أمور مهمة ولا يمكن التقليل منها ولكنها لا تعكس الدور الحقيقي الذي يفترض أن تلعبه المنظمة الدولية في مثل هذه الأزمات.
قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان هدد مؤخراً باستخدام ما أسماه بـ"القوة العسكرية المميتة" إذا لم يمثل "العدو" لصوت العقل، وهذا يعني إحتمالية شبه مؤكدة لاستخدام القوة الجوية والصاروخية ضد مناطق تمركز قوات "الدعم السريع"، بكل ما يعنيه ذلك من خسائر بشرية بالنظر إلى أن هذه القوات تتمركز ـ بحسب بيانات الجيش السوداني نفسه ـ في مناطق سكنية مأهولة، ما يعني تدمير مدن بالكامل وقتل من رفضوا النزوح أو اللجوء!
إستمرار الصراع في السودان ينطوي على خطر توسع سيناريو القتال واستمراره بحيث لا يقتصر على السودان ومدنه الرئيسية بل يمتد ليشمل مناطق وربما دول مجاورة أخرى في منطقة تعاني هشاشة أمنية بالغة، وتمتلك مخزوناً كامناً من أسباب التوتر والصراع، بكل ما يعنيه ذلك من أزمات إنسانية واغاثية وطوفان من اللجوء الذي يفوق قدرات أي بلد إقليمي على تحمله بل مجرد التعامل معه.