إبعاد سوريا عن الدوران في فلك التحالف مع إيران ليس قضية جديدة على النقاشات، فالمسألة تعود إلى عقود مضت بحكم قدم التحالف السوري ـ الإيراني، الذي يعود إلى نظام الرئيس السابق حافظ الأسد، وهو أحد مسلمات السياسة الخارجية السورية حتى يطرأ متغير إستراتيجي جديد ينهي هذا التحالف، أو يفرض على دمشق إعادة "هندسة" سياستها الخارجية وفق قواعد لعبة جديدة لم تظهر بعد.
في ضوء ماسبق، فإن مناقشة التقارب الإماراتي ـ السوري باعتباره محاولة لإبعاد سوريا عن إيران يحيد عن الواقع، ويتجاهل وعي الدبلوماسية الإماراتية بالثوابت والمتغيرات التي تحرك السياسة الخارجية السورية. الواقع أن الإمارات قد اختارت التوقيت المناسب تماماً لتعزيز توجهها نحو سوريا، التي تقترب من إنفراجة محتملة في العلاقات مع تركيا، كما أكدت مؤخراً متانة علاقاتها مع طهران عقب زيارة حسين عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق.
الإمارات ترسم سياستها الخارجية نحو سوريا بشكل واضح للغاية، فهي تمضي في تقاربها مع دمشق بخطى واثقة، حيث زار الرئيس الأسد الإمارات في مارس من العام الماضي، كما قام سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي بزيارة إلى دمشق في يناير الجاري، في مؤشر مهم لتنمية وتطوير التعاون الثنائي بين البلدين.
في المقابل، تراقب إيران أي تحركات عربية أو إقليمية أو دولية باتجاه سوريا بشكل دقيق، وقد أعرب عبد اللهيان من قبل عن "سعادة بلاده بالاتجاه الاخذ في الاتساع لعلاقات سوريا الخارجية"، وقد يكون ذلك صحيحاً بالفعل لأن إستعادة قوة سوريا هو بالأخير وبغض النظر عن أي حسابات أو اعتبارات، يصب بمصلحة إيران الإستراتيجية بحكم التحالف القائم بين طهران ودمشق، ولكن المؤكد أن "حدود" التقارب بين سوريا وأي طرف عربي أو إقليمي ستكون احد موضوعات النقاش المهمة في الحوار السوري ـ الإيراني، لأن طهران ربما تريد أن تحصل سوريا على دعم عربي لإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد ولكنها لا تريد بالتأكيد عودة سوريا كلاعب فاعل في محيطها العربي لاسيما في ظل تضارب المصالح بين طهران ومعظم الأطراف العربية، والخليجية على وجه التحديد.
إيران ترسم سياستها تجاه سوريا بشكل مشابه للعراق، مع إختلاف التفاصيل وبعض الأهداف، ولكنها تصب إجمالاً في سلة بناء محور إقليمي بقيادة طهران، ومن المتوقع أن يزداد تركيز إيران على سوريا خلال الفترة المقبلة في ظل تفلت العراق وتململه من محاولات الهيمنة والسيطرة الإيرانية على القرار العراقي.
السؤال الذي يطرحه بعض المراقبون هو: هل يمكن إقناع سوريا الأسد بالنأي بنفسها عن إيران؟ الجواب على ذلك هو بالنفي لأن سوريا في ظروفها الراهنة يصعب عليها التخلي عن تحالفها مع إيران، لاسيما في ظل التعنت الغربي المستمر بشأن التعاطي مع نظام الرئيس بشار الأسد، فضلاً عن إنقسام الموقف العربي حياله أيضاً، وهو أمر لا يشجع مطلقاً دمشق على المجازفة بالإبتعاد عن الحليف الإيراني سواء الآن أو خلال المدى المنظور.
بلاشك أيضاً فإن العرب قد ماطلوا كثيراً في بناء موقف موحد حيال سوريا، وضاعت فرصة إعادة دمج هذا البلد العربي العريق في محيطه العربي خلال قمة الجزائر، والنتيجة أن من غير المنطقي الحديث عن أي طرح بشأن إبتعاد سوريا عن إيران من دون أن ترى أي أفق أو حلحلة في الموقف العربي على الأقل حيالها!
تحركات الإمارات الدبلوماسية تجاه سوريا هي خطوة فاعلة للغاية لأن الفراغ الإستراتيجي الناجم عن غياب أدوار القوى الدولية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط بسبب الإنشغال بحرب أوكرانيا يغري أطرافاً إقليمية عدة بملء الفراغ وبناء تحالفات من شأنها تهديد الأمن الإقليمي، ومن ثم فإن التقارب مع سوريا في هذا التوقيت المهم للغاية يمثل تحركاً إستراتيجيًا واعياً لتعويض إخفاق النظام الإقليمي العربي في التعامل مع الملف السوري، ويمثل معادلاً موضوعياً لتحركات قوى اقليمية أخرى.
الحقيقة أن القوى الدولية الكبرى، وكذلك العرب، لم يستوعبوا خطورة تكرار الفراغ الإستراتيجي في الشرق الأوسط، حيث تسببت مواقف مشابهة في التغول الإيراني في دول عدة بالمنطقة، وهو الوضع الذي تعاني منه المنطقة حتى الآن.
الإمارات لا تسعى في هذا الإطار لتفكيك العلاقات بين إيران وسوريا، لأن هناك إدراك مسبق لخلفيات المواقف والسياسات، وأنه ليس جديداً أن يكون لسوريا علاقات تحالف مع إيران، وبالتالي فالواقعية تقتضي المضي للأمام من دون وضع الآخر ـ سوريا ـ أمام خيارات صفرية معقدة، علاوة على أن هناك أدوار تنموية فاعلة للغاية يمكن أن تضطلع بها الإمارات من أجل دعم وإعادة سوريا، لاسيما أن دولة الإمارات لا تخضع لعقوبات غربية كما هو حال بقية حلفاء سوريا مثل روسيا وإيران، وإن كان ذلك لا ينفي أن "قانون قيصر" الأمريكي يمكن أن يغل قدرة الإمارات وغيرها من الدول العربية عن دعم جهود الإعمار في سوريا لحين مراجعة الموقف والسياسات الأمريكية حيال سوريا.
الخلاصة أن الواقع الإستراتيجي يقول إن فكرة إبعاد سوريا عن إيران تبدو مستبعدة على الأقل في الوقت والظروف الراهنة، ولكن القرب للواقعية هو السعي لبناء نفوذ عربي ـ خليجي ـ إماراتي موازي للنفوذ الإيراني في سوريا، وعبر قناة هي الأكثر تأثيراً وفاعلية في سوريا مابعد الصراع، وهي القناة الاقتصادية والاستثمارية وعبر جهود إعادة الإعمار، وهنا فقط يمكن معادلة النفوذ والتأثير الإيراني وربما تقويضه تدريجياً، ولكن هذا الأمر يستلزم دعماً عربياً قوياً للجهود التي تبذلها الدبلوماسية الإماراتية لاستعادة دور سوريا عربياً وإقليمياً.