تشير معظم التوقعات إلى أن الوضع المتأزم في ليبيا لم يعد مرشح للحل قريباً، فالإشتباكات التي جرت مؤخراً تعيد الصراع العسكري في البلاد إلى الوراء مجدداً، وأصبح هذا البلد العربي نموذجاً للإنهيار، الذي يتجاوز فكرة الدولة الفاشلة بعد أن تفككت أوصال "الدولة الليبية" وتحولت إلى معسكرات متصارعة وحكومتين متنافستين ونخب لا تستطيع العثور على مخرج من مأزق يعانيه شعبها طيلة السنوات الماضية.
الوضع في العراق ربما يختلف ظاهرياً عن المأساة التي تعيشها ليبيا، ولكنه يؤدي إلى الطريق ذاته، حيث تحول السجال السياسي إلى إشتباكات وأزمة محتدمة بين أنصار التيار الصدري والإطار التنسيقي. الكل في العراق يتداول مفردات مثل الفتنة والخطر الكبير والإستعداد للأسوأ، وتحولت مؤسسة الدولة العراقية إلى ضحية للصراع السياسي الذي تجاوز الخطوط الحمر الوطنية جميعها.
القاسم المشترك بين الأزمتين الليبية والعراقية هي الصراع حول مسألة الانتخابات وصناديق الإقتراع، سواء جرت هذه الإنتخابات كما في الحالة العراقية، أم لم تتم من الأساس كما في الحالة الليبية، حيث فشلت جميع سيناريوهات تنظيم الإنتخابات التي كان مقرراً لها منتصف العام الماضي.
ذكرت أنه منذ إستقالة نواب التيار الصدري من مجلس النواب العراقي بشكل جماعي أن حالة الإنسداد السياسي مرشحة للتفاقم وأن السيناريوهات السياسية المقبلة مفتوحة على كل الإحتمالات، وقلت أيضاً إنه لا ضمانة لأن توفر أي إنتخابات جديدة ـ في حال حدوثها أو تجاوز العقبات التي تحول دونها، الإستقرار الذي يحتاجه العراق أو ليبيا أو لبنان أو غيرهم.
نؤكد مجدداً أن العراق وليبيا ولبنان هي دول تواجه خطراً محدقاً في ظل حالة السيولة والفوضى التي يعانيها النظام العالمي، وأن من الصعب إبقاء الدول الثلاث رهينة تجاذبات داخلية يعكس الكثير منها إملاءات خارجية لا تستهدف سوى الإبقاء على نفوذ أطراف اقليمية.
وإذا كانت معضلة العراق تتشابه مع المعضلة اللبنانية في الأعراض والنتائج، وتتفق معها في مصدرها وأسبابها، حيث يبدو العامل الايراني الغائب الحاضر في الحالتين بقوة، كما يبدو الإختلاف في الإنقسام الحاصل داخل البيت الشيعي، وهو أيضاً ليس بعيد عن تأثير طهران ورجالها، فإن الوضع في ليبيا ليس ببعيد عن ذلك والنتيجة واضحة للجميع، ولا أمل في أن تشهد هذه الأزمات تغيرات فارقة خلال وقت وجيز في ظل عجز المنظمات الدولية عن الإضطلاع بمهامها، وفي ضوء إنشغال معظم الدول بالأزمات الداخلية التي تعانيها جراء تداعيات الحرب في أوكرانيا.
خلاصة هذا الواقع العربي المرير وكما نكرر ونعيد ونؤكد أن مشكلة بعض دولنا لا تكمن في الديمقراطية وصناديق الإقتراع، لأن هذه الآليات التي طالما طالب الكثيرون بها، باتت جزءاً من المشكلة وليس الحل، وهذه ليست دعوة لصرف النظر عن المسارات التشاورية أو دعوة للإستبداد وترويجاً لها كما قد يقفز البعض إلى مثل هذه الإستنتاجات، ولكنني أقصد أن أزمة هذه الدول أعمق من الآليات التي يفترض أن تؤتي حصادها في بيئة مهيأة لذلك، ومن ثم نجد الطائفية البغيضة والمحاصصة تعرقل مخرجات صناديق الإقتراع في حالات، والمصالح والولاءات العابرة للوطنية تحول دون تشكيل حكومات تعكس رغبة الشعوب وإرادتها في حالات أخرى، ونجد أن من احتكم للصندوق لا يقبل بنتائجه! ما يعني أننا أمام حالة إنسداد هي في الحقيقة نتاج ثقافة أحادية لا تؤمن بالديمقراطية سوى حين تحقق مصالحها وأهدافها، وتنقلب عليها حين تتنافر النتائج مع هذه المصالح، لذا فقد قيل أن الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين مؤمنين بسيادة أوطانهم ومدركون لقيمة الأوطان وضرورات حمايتها من أي تدخلات خارجية، فالممارسات السياسية المتحضرة لا تنحصر في قوائم مرشحين وصناديق إقتراع، بل في قناعات حقيقية متجذرة بحق الشعوب في اختيار من يمثلها، ولأن هذا القناعات غائبة تماماً، فإن المشهد يبدو عبثياً سواء تمثل ذلك في الصراع الكارثي الدائر في العراق، أو في إغتصاب ميلشيا للسلطة في صنعاء، أو تنافر حكومتين تتنازعان السلطة في طرابلس وبنغازي، ناهيك عن المشهد اللبناني الذي يموج بكل ألوان وأطياف العبثية السياسية!.