بيان الجماعة يطالب بتقديم 'العمل لصالح الدين الإسلامي والهوية واستقرار الأوطان على كل ما عداه' وهي صيغة مبهمة تسعى إلى تفادي أي إساءة للموقف الإيراني باعتباره البادئ بالتدخل في الشأن السعودي.
لم استغرب عندما قرأت البيان الصادر عن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية تعليقا على الأزمة الحاصلة بين المملكة العربية السعودية وإيران، فتاريخ الجماعة يشهد عليها وضدها، فهو مليء بالخداع وتجارة المواقف، وقد لا أكون مبالغا حين أقول إنها تحترف الغباء السياسي بامتياز، حيث راهن البعض على أن التوتر مع إيران ربما يصب في مصلحة “الجماعة الإرهابية” بمعنى أنه يمكن أن تتخذه “فرصة” للاقتراب من الموقف السعودي الرسمي، ولكن يقيني في غباء الجماعة لم يخب، إذ أصدرت بالفعل بيانا تنصلت فيه من موقف المملكة العربية السعودية واقترب بيانها من كونه إعلانا للتخلي عن “الفرصة” (كما يعتبرها بعضهم)، والأدهى من ذلك ادعاء السذاجة المفرطة في صياغة البيان، والاقتراب من مستوى لوم المملكة على موقفها المشرف في الدفاع عن سيادتها وحقها المشروع في ضمان حماية بعثاتها الدبلوماسية لدى إيران، بموجب الاتفاقات والقوانين والأعراف الدبلوماسية الدولية.
من المضحكات المبكيات أن الجماعة في بيانها (رغم التراجع عنه لاحقا)، حاولت مواصلة لعبة الخداع والإمساك بالعصا من المنتصف في موقف لا يحتمل هذه العبثية والسيولة في ردود الأفعال سواء من الدول أو من الأفراد، فالجميع في اختبار مواطنة ووطنية حقيقي وجاد، ولكن يبدو أن الجماعة تريد أن تعتبر نفسها “دولة كبرى” فلجأت إلى مطالبة طرفيْ الأزمة بما وصفته بـ”ضبط النفس”.
يطالب بيان الجماعة بتقديم “العمل لصالح الدين الإسلامي والهوية واستقرار الأوطان على كل ما عداه” وهي صيغة مبهمة تسعى إلى تفادي أي إساءة للموقف الإيراني تحديدا باعتباره البادئ بالتدخل في الشأن الداخلي السعودي من خلال التحريض والتهديد ضد المملكة عقب إعدام نمر النمر، ثم الاعتداء على المقار الدبلوماسية التابعة للمملكة في طهران ومشهد، فوضعت “الجماعة الإرهابية” طرفيْ الأزمة في كفة واحدة وتعاملت معهما بشكل متساو، من دون إحقاق للحق وردع للباطل كما يقول الدين الإسلامي الحنيف الذي يفترض أنها من دعاته، ولم يكتف البيان بذلك بل تمادى في توجيه لوم ضمني إلى موقف المملكة العربية السعودية بالنص على “كنا نأمل أن يتم احتواؤها من خلال مسارات أخرى غير تلك التي جرى فيها” في تلميح إلى رد الفعل السعودي الذي يعد تاليا للاعتداءات الإيرانية على سيادة المملكة وبعثاتها الدبلوماسية، ولم يقل لنا البيان كيف يمكن لدولة أن تحافظ على سيادتها وحقوق مواطنيها الذين تعهدت بحمايتهم وصون كرامتهم بموجب العقد الاجتماعي، مكتفيا بالقول إن الجماعة “لا تملك حلا تقدمه لأطراف الأزمة”.
هناك حيلة مكشوفة تتبعها الجماعة منذ عقود وسنوات مضت وهي إصدار البيانات ثم التنصل منها في حال ظهور ردود أفعال تتعارض مع مصالحها، ومن ثم فقد سعت عناصرها، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى الزعم بأن البيان منسوب للجماعة بعد ما رأوا ما فيه من تخاذل وتخل عن المملكة العربية السعودية، التي قدمت لهم تاريخيا الكثير من الدعم والمساندة، وبعدما لاحظوا غضب العديد من الأوساط السعودية على رد فعل “الجماعة الإرهابية” التي كان يعتقد هؤلاء أنها يمكن أن تقدم إسنادا ما لموقف المملكة ولو من باب استغلال الفرص والبراغماتية السياسية، ولكن ما غاب عن الجميع أن الجماعة غائبة عن الوعي ولا تجيد حتى اقتناص الفرص بقدر ما تتمسك بثوابتها الأيديولوجية، ومنها العلاقات مع الحليف الإيراني التاريخي للإخوان المسلمين.
يزعم البعض أن البيان اتسم بما وصفوه بـ”العقلانية”، ولكن هذا الافتراض الزائف يثير تساؤلات عدة، في مقدمتها إن كانت الجماعة تمتلك قدرا من الرشد والعقلانية، فأين كل ذلك مما يجري في مسقط رأسها، مصر الشقيقة، ولماذا لم نلحظ أثرا للعقلانية في وقف الإرهاب والعنف وسفك الدماء ضد الدولة ومؤسساتها في هذا البلد الشقيق، بلد الأزهر الشريف، الذي هو أيضا من “أهل القبلة” كما يقول هذا البيان المتهافت.
الغريب أن بيان الجماعة الإرهابية قد جاء ضعيفا ويمكن تشبيهه بموقف الجماعة إبان فترة الغزو العراقي لدولة الكويت الشقيقة في أغسطس عام 1980، حينما وقف إخوان السودان واليمن وتونس وتركيا مع صدام حسين يناصرونه في احتلال بلد شقيق، وقد كشفت وثائق “ويكيليكس” عن وثيقة أصدرها مكتب الإرشاد التابع للإخوان المسلمين في 28 مارس 1991، بتوقيع مرشد الجماعة في مصر، وقتذاك، حامد أبو النصر اعتبر فيها أن ما حدث “مؤامرة خبيثة” من الخارج ويعزو المشكلة إلى “عدم وجود قاعدة إسلامية”.
وخلال تلك الأزمة، كان اللعب على الحبال وتبادل المواقف وغموضها بين قيادات الجماعة في دول عربية وإسلامية عدة مقصودا ويستهدف التشويش على الموقف الحقيقي للجماعة، الذي سعى إلى دعم صدام على حساب دولة الكويت وشعبها، والبحث عن تحقق أجندة الجماعة الإرهابية في تلك اللحظة التاريخية المشؤومة بغض النظر عن التضحية بدولة كاملة وشعبها رغم ما قدمته لهم من دعم ومساعدات.
وفي ضوء هذا التشابه بين مواقف الجماعة التاريخية، فقد سعت بعض عناصرها مؤخرا إلى استنساخ اللعبة ذاتها ومحاولة التنصل من البيان ووصفه بالمزور أو “مجهول النسب” لكونه “يغرد خارج سياق الأمة” كما قال أحد الإعلاميين المحسوبين على الجماعة في دولة خليجية شقيقة.
لا يمكن الدفاع عن مواقف الجماعة الإرهابية بالقول إنها تجهل أطماع إيران في دول مجلس التعاون، فقد كان المدعو عصام العريان، أحد عناصرها البارزين المعتقلين في مصر يحاول إثارة مخاوف شعوب دول مجلس التعاون ويهددها بالخطر الإيراني إن لم تتحالف مع نظام الجماعة حينما تولى السلطة في هذا البلد الشقيق، وبالتالي فالجماعة تعرف خطر إيران جيدا سواء بحكم علاقتها الفكرية وارتباطاتها الأيديولوجية مع الثورة الخمينية، أو بحكم تعاونها معها على مدار العقود الماضية، ويكفي أن الحزب الإسلامي الممثل للإخوان في العراق قد دعم نوري المالكي خلال فترة رئاسته للوزراء، والتي مارس فيها قمعا طائفيا غير مسبوق على السنة العراقيين، وهناك أيضا علاقتها بالحوثيين في اليمن ثم انقلابهم عليهم ليس لسبب سوى أن الحوثيين أرادوا الانفراد بالسلطة، وقد كان عبدالمجيد الزنداني يتباهى بأن الحوثيين حلفاء للجماعة في اليمن.
لكل ما سبق وغيره مما تعجز المقالات عن رصده من مواقف متقلبة للجماعة الإرهابية، لم أشعر بأن البيان الأخير حول الأزمة بين السعودية وإيران “يغرد خارج السرب” كما قال أحدهم، فالجماعة لم تكن يوما تحلق ضمن السرب، حتى وإن طارت ظاهريا ضمنه، فهي في الأغلب تحلق على أطرافه بانتظار أول فرصة للإفلات منه والبحث عن مصالحها ولو على حساب دولها وشعوبها.