تواجه السلطات الأمنية في الدول التي تستهدفها تنظيمات الارهاب معضلة لا يستهان بها تتعلق بهوية الارهابيين
المحتملين، إذ كشفت الاعتداءات الارهابية التي تعرضت لها دول عدة في الأشهر الأخيرة، عن توغل وانتشار الفكر الارهابي بين مواطني دول كثيرة، فلم يعد هذا الفكر البغيض يرتبط ـ جغرافيا وأيديولوجيا ـ بدول أو مناطق بعينها ـ كما كان في السابق، بل تحولت تنظيمات الارهاب إلى «مظلة أيديولوجية» ينضوي تحتها أصحاب هذا الفكر بغض النظر عن جغرافيا المكان.
هناك عوامل عدة أسهمت في انتاج هذا الواقع المعقد، في مقدمتها ما يمكن تسميته بالانفجار الذاتي الانشطاري لتنظيم «القاعدة» إثر مقتل قائده السابق أسامة بن لادن، وفشل أيمن الظواهري في شغل فراغ «القيادة» الذي تركه القائد السابق، وتشظي التنظيم إلى »فروع« فسيفسائية انتشرت في دول ومناطق مختلفة، بعضها لا يزال يعمل تحت أمرة التنظيم من الناحية الشكلية فقط، من دون التزام تنظيمي، وبعضها الآخر ـ وهو الأغلب ـ انضوى تحت راية تنظيم «داعش» وبايع البغدادي، لأسباب ليست في جميعها فكرية وعقدية بل يلعب فيها التمويل والمصالح الذاتية والدعاية الاعلامية والانانية وحب الشهرة، التي يعانيها معظم المنتمين لتنظيمات الارهاب، دوراً كبيراً، بحكم أن «داعش» يمثل في نظر هؤلاء صورة «البطل» الذي يسكن خيالاتهم المريضة.
لم يكن العامل السابق هو العنصر الوحيد في رسم المشهد الارهابي الراهن، بل إن تقنيات الاتصال الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي قد لعبت دوراً هي الأخرى في عولمة الفكر الارهابي، حيث قدمت هذه الوسائل «خدمات» كبيرة إلى تنظيمات الارهاب، وساعدتها في بناء معسكرات تجنيد ومنابر دعائية افتراضية قفزت من خلالها هذه التنظيمات على الحواجز الأمنية والرقابية بل والجغرافية أيضاً، ولا يجب أن نتجاهل الأثر الناجم عن أساليب الدعاية التقنية المتطورة التي يتبعها «داعش»، ومنها ترجمة مقاطع الفيديو الخاصة بالتجنيد والاستقطاب إلى لغات تمت دراستها واختيارها بعناية ملحوظة مثل الأوردية والتاميلية والبهاسا الاندونيسية وغيرها بحثاً عن «فتح» منافذ جديدة للاستقطاب والتجنيد!
في وجود الترويج العالمي عبر الانترنت للفكر الارهابي، وتحويل «داعش» هذا الفكر إلى نموذج «جذاب» لشريحة مهمشة أو ضعيفة من الشباب والمراهقين في دول العالم المختلفة، باغرائهم بالحصول على الأموال (يمنح تنظيم داعش لعناصره الارهابية نحو الفي دولار شهرياً تم خفضهما أخيرا إلى ألف دولار بموجب قرار البغدادي بسبب ما وصف بتراجع موارد التنظيم المالية) والتمتع بالنساء وامتلاك البيوت والسلطة والسيطرة على الآخرين، بما يفرزه ذلك من قوة جذب هائلة لدى هذه الشرائح، تحول الارهاب إلى «بزنس» وتجارة رائحة اختلطت فيها مصالح تنظيمات الارهاب مع مصالح فئات مغامرة تطمح إلى جمع الأموال مع مصالح أجهزة استخبارات دول راعية للارهاب، وتستخدمه في تحقيق أهدافها الاستراتيجية اقليمياً ودولياً.
في ظل ما سبق لم أعد استغرب كثيراً لوجود مزيج لافت من عناصر الفكر الارهابي، فتنظيم «داعش» يضم بين عناصره في سوريا وغيرها ارهابيين يحملون جنسيات 80 دولة تقريباً، ومنها دول لا علاقة لها بالاضطرابات في الشرق الأوسط أو غيره مثل اليابان أو سنغافورة وغيرهما!. والخطورة أن عولمة الارهاب لم تعد تقتصر على الفكر الداعشي، بل إن ظاهرة الارهاب نفسها باتت ترتبط بهذا الانتشار الجغرافي واسع النطاق، بغض النظر عن التبعية لداعش أو غيره، فقد كشفت السلطات السعودية أخيرا، عن اعتقال عناصر ارهابية ضمن جنسيات غير عربية بشكل يستحق الانتباه والاهتمام.
ربما يعتقد بعض الباحثين أن مرحلة الجهاد الأفغاني قد شهدت سمات مماثلة لذلك، حيث تواجد في الساحة الأفغانية عناصر من مختلف الدول، وهذه حقيقة، ولكن تلك المرحلة تختلف تماماً عما يحدث حالياً، سواء بالنظر إلى اتساع رقعة التغطية الارهابية وانتشار إرسال «البث الارهابي» ليشمل جميع أرجاء المعمورة تقريباً، أو لأن الجهد المبذول في الاستقطاب والتجنيد لا يقارن بما سبق، ففي السابق كان المشهد الأفغاني نتاجاً لتكاتف جهود دول وأجهزة استخبارات تمتلك امكانيات هائلة، ولكن مايحدث الآن ليس سوى نتاج مواقع انترنت وجهود نفر من التقنيين التابعين لداعش يعملون في غرف صغيرة من داخل سوريا أو غيرها من الدول لا فرق!!.
الإشكالية في هذا المشهد المعقد أن جهود مكافحة هذه الظاهرة من الناحية الفكرية والعقائدية لا تزال تراوح مكانها، بل تحول الأمر إلى صراعات جدلية بين النخب الدينية والثقافية، وانزلق الجميع تقريباً إلى صراعات هامشية ومعارك جانبية حول «المقدس» و«المدنس»، والحدود القانونية والثقافية لإزدراء الأديان واحترامها، وبما يسهم ـ من دون شك ـ في تعزيز فرص انتشار الفكر الارهابي، وتقدم له هدايا مجانية بإشغال الجميع عن القضية الرئيسية وتحويل بؤرة الاهتمام إلى مستنقعات جدلية قد يستغرق الخروج وقتا طويلا، وربما لا تستطيع بعض المجتمعات الخروج منها بالمرة!.
الجميع إذن في مواجهة لحظة عبثية بامتياز، فالنخب لا تكف عن ترديد المقولة الخالدة بأن الجهود العسكرية وحملات الملاحقة الأمنية ليست كافية بمفردها للقضاء على الفكر الارهاب، ولكن ما يحدث أيضاً أن هذه النخب تقف ساكنة مكتوفة الأيدي رغم جمود وعقم الاستراتيجيات التي يفترض أنها تستهدف الظاهرة الارهابية فكرياً وثقافياً ودينياً وتربوياً!.
لا نريد أن ننتظر حتى يعلن البغدادي أو غيره من قادة الارهاب مزيدا من الانتصارات، فالتحرك الآن وليس غداً بات واجباً يستحق أن يكون في صدارة الاهتمام.
كاتب من الإمارات