من الموروثات التي يتعامل على أساسها الكثيرون في معظم الدول العربية أن الرئيس أو القيادة السياسية تقف وراء كل صغيرة وكبيرة في الحياة العامة، وأن أي فعل أو قرار يصدر بحق هذا أو ذاك من الشعب يصدر بعلم الرئاسة أو على الأقل بضوء أخضر منها!! تلك هي المعضلة الحقيقية التي تعد في حقيقة الأمر الوجه الاخر لميراث طويل من الممارسة السياسية القائمة على حكم فردي، ربما لم يكن يأخذ بالاعتبار المتغيرات الداخلية والخارجية المحيطة به.
ماكان يدور همساً في مراحل زمنية سابقة، بات الآن يتداول عبر المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتشعبت الأمور بشكل غير مسبوق تاريخياً، ورغم أن تقنيات الاتصال الذكية الحديثة قد باتت جزءاً رئيسياً من المشهد الاعلامي والسياسي في دول العالم أجمع، فإن فهم مايدور من حولنا لم يزل يخضع في كثير من الأحيان لثوابت وقوالب عفا عليها الزمن، ولم تعد صالحة لتفسير كثير ممايدور من حولنا.
من بين هذه الثوابت مسألة تعليمات الرئيس وتوجيهات القيادة، وهي فكرة تمثل إطاراً نظرياً فضفاضاً يتحرك بداخله الكثير من الأجهزة والمؤسسات والوزارات، ولذا يفاجىء الجمهور حين ينتقد الرئيس تصرف أو قرار ما لإحدى الجهات أو المؤسسات الرسمية، وينقسم النقاش في تفسيره إلى فريقين، أولهما ينطلق من شكوك لا تزال متجذرة في الوعي الجمعي، تعتبر أن النقد ليس سوى غطاء تبريري لإظهار الوجه الايجابي للقيادة و "تجميل" سياساتها، وأن هذا النقد لا ينفي احتمالية حصول الجهة على تعليمات عليا ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ بتنفيذ الفعل موضع النقد. بينما يرى فريق ثان الأمر من منظور تآمري قائم على أن هناك من يعمل على وضع العصا في دواليب القيادة، والسعي لإحراجها.
قد لا يكون الأمر محصوراً في هذا أو ذاك، فأمور القيادة ـ ولاسيما في دولة كبرى وذات ثقل اقليمي ودولي مثل مصر ـ من التعقيد والتشابك والتداخل بحيث يصعب وضعها وتفسيرها في إطار سيناريوهات وبدائل محدودة. ومن هنا يصعب على البعض فهم ما وراء بعض المواقف التي عبر عنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخراً، ومنها ـ بطبيعة الحال ـ موقفه إزاء طريقة تعامل السلطات مع أحد رسامي الكاريكاتير، حيث أقر الرئيس ضمناً باخفاق الجهات المعنية في "التواصل والتفاهم" مع الشباب، وقال نصاً ""هذه أمور طبيعية في دولة لا تزال في حالة ثورة منذ 5 سنوات، والأمور فيها لم تنضبط بعد". وهذه حقيقة، فوضع النقاط على الحروف وإعادة ضبط قواعد التعامل المعيارية في مجتمع لم يزل يعيش حالة من الفوران السياسي والاجتماعي جراء التحولات الهائلة التي شهدها في عامي 2011 و2013، إنما يتطلب قسطاً من الوقت، وخلال هذه الفترة لا ينبغي تفسير الأمور ورؤيتها بمنظور قديم، أو تقييمها وفق معايير سقطت بانتهاء الحقب السياسية التي ارتبطت بها.
المداخلة التلفزيونية للرئيس عبد الفتاح السيسي تعليقاً على موضوع رسام الكاريكاتير تضمنت نقاط بالغة الأهمية وتستحق تسليط الضوء عليها بقوة، وفي مقدمتها تعهده بتحقيق التوازن بين متطلبات الأمن وحقوق الإنسان، ما يعني أنه يدرك تماماً حساسية العلاقة بين هذين المتغيرين، باعتبار أن ضبط العلاقة بينهما يبدو مثل المشي على حبال مشدودة وسط الأشواك، وهو بالفعل "أمر حساس ودقيق ويحتاج إلى جهد كبير ومتابعة دقيقة"، كما قال الرئيس.
أكثر ما يعجبني في مداخلات الرئيس هو الحرص على التفاعل والاشتباك من دون وسيط مع القضايا والموضوعات التي تشغل بال الرأي العام المصري، ناهيك عن أن الحديث ذاته قد وضع النقاط فوق حروف كثيرة، وقدم ردوداً على تساؤلات عديدة، ودلف إلى مناطق غامضة ظلت طيلة الفترة الماضية مثار تساؤل للرأي العام والمراقبين والمتخصصين، من مثل موقف مؤسسة الرئاسة المصرية تجاه الحريات وسقفها ومساحات النقد وهوامشها، وحدود النقد المسموح بها، حيث أكد الرئيس بوضوح وصراحة تامة أنه "لا يغضب ولا يضيق بالنقد" معتبراً أن "الاختلاف وارد وطبيعي".
قناعتي الذاتية أن مؤسسة الرئاسة قد بدأت بالخطوة الأولى في مشوار بناء الثقة مع شريحة الشباب تحديداً، سواء من حيث وضع الإطار العريض للتعامل المشترك، أو تكريس قواعد الشفافية والمصارحة وحسن النوايا، والأخيرة هذه نقطة بالغة الأهمية والحساسية في آن معاً، لأن بناء الدول يتطلب تضافر الجهود المجتمعية كافة، وفي القلب منها جهود شريحة الشباب، التي تراهن عليها الدول في بناء الحاضر والتصدي لتحديات المستقبل، وهي تحديات استراتيجية بالغة الصعوبة، ووصفها الرئيس السيسي ذاته بأنها تفوق الخيال.
ربما لم يعجب حديث الرئيس البعض، ولكنه يبدو في غاية الايجابية والتفاؤل بالنسبة لي شخصياً، بحكم أن بناء المستقبل على أسس صحيحة يبدأ من مربع المصارحة والمكاشفة، فلا وقت لبيع الأحلام وتسويق الأوهام، ولا مجال لخداع الشعوب، ولأن اخفاء حقيقة الأوضاع في أي دولة بات حلماً صعب المنال في ظل ديناميات ثورة المعلومات وشبكات الاتصال والتواصل الذكية.
ولعل أكثر ما يلفت انتباهي أيضاً في حديث الرئيس هو حرصه الشديد على مسألة "تثبيت الدولة ومنع انهيارها"، معتبراً ذلك محور استراتيجته خلال السنوات الأربع المقبلة، وهي مسألة ربما لا يقدر البعض أهميتها ومحوريتها، ولكن الحقيقة تقول بأنها مرحلة بالغة الأهمية ومطلب استراتيجي حيوي، فتثبيت بناء الدول لا يعني بالتبعية منع انهيارها فقط بل توفير الحصانة اللازمة لهذا البناء للحيلولة دون تعرضه للاهتزاز والاختلال في مراحل زمنية لاحقة، بكل ما يعنيه ذلك من وضع الأسس التشريعية والقانونية والهياكل المؤسسية وإعادة بناء المرافق والبنى التحتية والتفاعل مع المطالب الجماهيرية من خلال العقد الاجتماعي القائم على الثقة المتبادلة بين الشعب والقيادة.