قلت من قبل في مقال لي إن الأستاذ فهمي هويدي لا يفوت فرصة يمكن أن ينال فيها من دولة الإمارات العربية المتحدة إلا ويستغلها بمهارته وخبرته المهنية المعروفة، وبالأمس القريب نشر الكاتب مقالًا تناول فيه حالة الضعف الاستراتيجي التي يعانيها العالم العربي، وهذه حقيقة لا مراء فيها ولا جدال، ولكنه كان ينحي فكرته الأساسية جانبًا في كثير من أجزاء المقال، للغمز واللمز حول دولة الإمارات العربية المتحدة، رغم أنه يتناول في مقاله موضوعا حيويا ينبغي أن يترفع فيه عن هذه الصغائر ويركز على نقاش أكثر موضوعية واحترامًا لعقلية القراء.
في مقال بعنوان "العالم العربي صار مهددًا بحدوده ووجوده"، استهله هويدي بالاستناد إلى خبر نشرته صحيفة "القدس العربي" حول محاضرة ألقاها يوسف العتيبة سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في واشنطن أوائل شهر يناير الماضي، حيث زعمت الصحيفة المعروفة بميولها وولائها وحرصها المستمر على الإساءة إلى الإمارات لأسباب واعتبارات لسنا في موضع مناقشتها في هذا المقام، زعمت أن السفير الإماراتي "كشف عن وجود قاعدة عسكرية أمريكية كبيرة في بلاده بها ثلاثة آلاف جندي أمريكي، كما أن جميع العمليات التي تقوم بها سفن حربية أمريكية بالمنطقة تنطلق من ميناء جبل علي في دبي".
ولأن الصحيفة تفتقر من الأساس إلى المعايير المهنية الموضوعية، فقد صاغت عنوانًا صارخًا لا علاقة ولا جود له في المتن، وفسرت فقرات المحاضرة وفق اهوائها زاعمة أن السفير الإماراتي ألمح في حديثه عن التطرف إلى الفكر السلفي الوهابي السائد في المملكة العربية السعودية (!) ولذا، فقد أوقعت الصحيفة بدورها كاتب بحجم فهمي هويدي في فخ دعايتها الرخيصة حين استند إليها، رغم أنه كان يفترض فيه-وهو الكاتب المخضرم العالم ببواطن الأمور-العودة في توثيق معلومة إستراتيجية خطيرة بهذه الأهمية إلى مصدرها الأصلي، وهو المحاضرة ذاتها، فهي منشورة على مواقع عدة على شبكة "الإنترنت"، والأمر ليس سرًا على الإطلاق، ولكن الرغبة في "التصيد" للإمارات ربما غلبت الرجل حين أمسك بقلمه، فاعتبر أنه تصيد معلومة ثمينة بنى عليها فكرته ووضعها في صدارة المقال، معتبرًا أنها أحد أسانيده، في حين أن ما نشرته الصحيفة مجرد تضليل إعلامي مجاف للحقيقة، أو في أحسن الأحوال خطأ ترجمة لا يغتفر، وهنا وقع الكاتب في "غلطة" هي بـ "ألف" كما يقول المثل الشعبي الشائع.
كنت أرغب في ترك الأستاذ هويدي يبحث بنفسه عن أصل ما قاله السفير الإماراتي لدى واشنطن، ولكن ثقتي في أن ذلك لن يحدث، تجعلني أضع ترجمة النص الدقيق لهذه الجزئية الواردة في المحاضرة تحديدًا أمام القراء، علمًا بأن المحاضرة نفسها متاحة لمن يريد الاطلاع عليها، فقد قال السفير العتيبة نصًا في محاضرته حول الروابط الاستراتيجية بين بلاده والجانب الأمريكي:
"الإمارات والولايات المتحدة متحدتان لجعل العالم أكثر أمنًا، من خلال العمل بشكل وثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الدوليين، فدولة الإمارات تظهر التزامها لمواجهة الإرهاب والقضاء عليه في الشرق الأوسط، وبالإضافة إلى العمليات العسكرية المشتركة، نحن أيضًا قاعدة للمهام العسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، ونستضيف أكثر من 3000 عسكري أمريكي في هذه اللحظة، وميناء جبل علي في دبي هو الأكثر استخدامًا للسفن الأمريكية خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا التعاون دليل على الروابط القوية التي تجمع بلدينا".
ومعلوم أن هناك فارقا كبيرا وهائلا بين أن يقول السفير إن لدينا -أو يتفاخر كما زعمت المواقع الإخوانية- قاعدة عسكرية، وأن يقول إننا قاعدة انطلاق لمهام عسكرية ضد تنظيمات التطرف والإرهاب، واستضافة قوات تنفيذًا لاتفاقات تعاون عسكري بين الدول، وعلمًا أيضًا بأن الأمر لا يتعلق بالقوات الأمريكية فقط، بل يرتبط بعلاقات التعاون العسكري مع مختلف دول العالم الصديقة، ومنها على سبيل المثال جمهورية مصر العربية الشقيقة، التي توجد قوات جيشها الباسل على أرض الإمارات لبعض الفترات خلال المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة، وهذا أمر نعتز به في دولة الإمارات بحكم علاقات الأخوة التي تجمعنا بالشقيقة مصر.
ثمة نقطة بالغة الأهمية كذلك، تتعلق بأن مضمون هذه المحاضرة لا علاقة له تمامًا بالفكرة الرئيسية في مقال هويدي، وهي الجدل العبثي، الذي يطفو حينًا ويخبو أحيان أخرى، حول هرمية السلطة والنفوذ في العالم العربي، فالسفير الإماراتي في واشنطن لم يتحدث ولم يتطرق البتة إلى دور بلاده أو مكانتها في العالم العربي ولم يكن ذلك مجالًا لمحاضرته، بل تناول بشكل مكثف وواضح أسس العلاقات الاستراتيجية بين دولة الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية!! ولا أدري -شخصيًا- لماذا زج هويدي بهذه المحاضرة تحديدًا في مقاله؟!
يقول السيد هويدي بعد أن عرض مقالات رأي لا تعبر سوى عن قناعات كاتبيها، أن هناك حقيقة لا مفر من الاعتراف بها وهي -برأيه- أن "مصر صغرت والآخرين كبروا"، وهذا أيضًا كلام لا يلزم سواه، فمصر لم تصغر -كما يزعم- بغض النظر عن الأوزان الاستراتيجية النسبية لبقية الأطراف والقوى العربية، والإشكاليات الداخلية التي تعانيها الشقيقة مصرـ لا تعني أنها صغرت أو تضاءلت مقارنة بقوى إقليمية أخرى، فالمكانة الاستراتيجية للدول جميعها تختلف في حسابها عن معايير "الحجم"، بل تخضع لمعايير دقيقة تجعل هذه الدولة تمارس دورها التقليدي أو تتراجع عنه أو يتآكل هذا الدور تحت وطأة ضغوط وإشكاليات داخلية مختلفة، ولكن الوزن النسبي للدول لا "يصغر" كما يقول هويدي بل قد يتجمد تأثيرها الاستراتيجي المتعارف عليه مرحليًا لظروف ما، أو يتراجع دورها تكتيكيًا تبعًا لهذه الظروف، ولكن كل ذلك لا يعني انتهاء الدور وسقوطه نهائيًا من الحسابات الجيواستراتيجية الإقليمية والدولية.
لست هنا في مقام الدفاع عن دور دولة بحجم وقيمة ومكانة مصر الشقيقة، ولا مقارنة تأثيرها الحيوي في بيئتها الإقليمية بدول عربية أخرى، فمصر ستبقى قلب العالم العربي ومركز الثقل بغض النظر عن أي قناعات أو حسابات إستراتيجية أخرى عابرة أو دائمة، ولكن ما يعنيني هو حرص الكاتب على الغمز واللمز من دولة الإمارات التي أثق أنه يكن لها كل عداء وحقد وبغضاء، لا لشىء سوى أنها وقفت حجر عثرة في وجه استغلال تنظيمات الإرهاب والتطرف الأيديولوجي للأوضاع في بعض الدول العربية، ومحاولة اختطاف السلطة في هذه الدول لمصلحة تحقيق أهداف هذه الجماعات والتيارات.
أشعر -شخصيًا- بالشفقة الشديدة حيال رغبة هويدي في الاساءة إلى الإمارات ومحاولة تشويه صورتها الذهنية بغض النظر عن تعارض ذلك مع الحقائق والمعلومات التي يحاول أن يوهم القراء بأنه يعتمد عليها في استنتاجاته وكتاباته، فالرجل -على سبيل المثال- يقفز على الاحصاءات الرسمية الموثقة بشأن التسلح العالمي، والتي تضع دولًا خليجية أخرى في ترتيب يسبق الإمارات في استيراد الأسلحة للعام 2014، وهو بالمناسبة أمر مشروع ولا غبار عليه ولكني أورده للنقاش وإثبات سوء نوايا الكاتب، الذي يتحاشى تمامًا ذكر اسم دول خليجية أو عربية أخرى، بخلاف الإمارات في معرض حديثه عن التسلح واستيراد الأسلحة ومقومات القوة والنفوذ بحسب وجهة نظره!!
أتمنى أن يفيق هويدي -وغيره- من غفوته، وأن ينتبه إلى خطورة ما يدور في عالمنا العربي من مؤامرات وخطط تقسيم إقليمية ودولية لأصدقائه الإيرانيين باع طويل ودور محوري فيها، وأن ينتصر لعروبته وقوميته ويترفع عن الصغائر وترويج أهداف دول وجماعات لا تضمر سوى الشر للشعوب العربية، التي تشرد الملايين منها شمال العالم وجنوبه، وشرقه وغربه، بسبب أطماع وطموحات هذه الدول والجماعات التي يدركها هويدي جيدًا.
شؤون عربية
هويدي والإمارات.. وغلطة الشاطر!!
- الزيارات: 978