لا أعتقد أن هناك ما يمنع إبراهيم الجعفري وزير خارجية العراق من رؤية الأمور بشكل صحيح في بلاده والمنطقة سوى منظوره الطائفي الضيق للأحداث وتفسيره المذهبي البغيض لها، فالرجل سياسي طائفي بامتياز، بل هو نموذج للممارسة السياسية الطائفية في أبشع صورها وتجلياتها.
ولا شك أن طائفية الجعفري البغيضة التي أظهرها في اجتماعات وزراء الخارجية العرب مؤخرا بالقاهرة ليست الواقعة الأولى من نوعها في هذا الشأن، فقد عرفت عنه في الأشهر الأخيرة آراء لافتة تضعه بلا منازع في منافسة شرسة مع محمد جواد ظريف على تمثيل الدبلوماسية الإيرانية وحمل حقيبتها، ولولا أن الأخير يمتلك خبرات تفاوضية كبيرة ومقدرة هائلة على المراوغة والمناورة السياسية في مواجهة نظرائه الغربيين، لما صمد في وجه منافسة الجعفري كثيرا بحكم إجادة الأخير للمناورة والمراوغة، وإن كان نصيبه منها أقل بمراحل من الوزير الإيراني.
منذ فترة ليست كبيرة، ملأ الجعفري الدنيا ضجيجا وصخبا بدعوى أنه يسعى للوساطة بين السعودية وإيران عقب الأزمة التي اندلعت على خلفية حرق المقار الدبلوماسية السعودية لدى إيران، ولكن الرجل أتى سلوكا سياسيا غريبا حين زار طهران ولم يكمل حلقات الوساطة المزعومة بزيارة الرياض، بل اكتفى بزيارة العاصمة العمانية مسقط مدليا بتصريحات لم تكن تستهدف سوى جذب الأضواء، ولم يبذل أي جهد جاد يليق بمن يفترض أنه يقود دبلوماسية دولة بحجم العراق الشقيق.
للموضوعية، فإن الجعفري رجل يجيد الكلام وخلط الأوراق، ولكنه، أيضا، يستحق بجدارة لقب أفشل سياسي عراقي، حيث تولى رئاسة وزراء هذا البلد العريق في واحدة من فتراته التاريخية الحساسة، ولم ينجح سوى في تعميق جراح هذا البلد الشقيق، وتسبب في تحويل فترة رئاسته للوزراء إلى واحدة من الفترات الأكثر دموية وسوداوية في تاريخ هذا البلد العريق.
سيذكر التاريخ للجعفري أنه وضع أقدام العراق على أعتاب المسار الطائفي، وكانت تفجيرات المرقديْن في سامراء عام 2006 إحدى عواقب الفتنة الطائفية التي أشعلها الجعفري، حيث توج جهودها البائسة على هذا الصعيد بفتح الأبواب أمام ميليشيات جيش المهدي للتغلغل في أجهزة الأمن والجيش العراقي، وما تبع ذلك من قيامها بممارسات تطهير طائفية كارثية تحت ستار الدولة العراقية وعلمها، وبزعم الحفاظ على كيانها وسيادتها وهويتها.
لا أدعي سبقا حين أنسب للجعفري نجاحه في تنفيذ المخطط الإيرانية في العراق بنجاح منقطع النظير، فالرجل الذي قضى سنوات الحرب العراقية الايرانية، أو حرب الخليج الأولى كما يطلق عليها، في أحضان إيران، لا يمكن أن يخالف هوى الملالي في الانتقام من العراقيين الشرفاء وإحراق العراق العريق، ووأد أي مقدرة له على البقاء والصمود، ودوره معروف كذلك في غزو العراق ولا يحتاج إلى جهد بحثي كبير؛ فرغم أنه كان يحاول الإيحاء بأن الجيش العراقي لا علاقة له بممارسات صدام حسين، إلا أنه سعى بإلحاح، عقب الغزو إلى حل هذا الجيش وتسريح جنوده حين كان أول رئيس لمجلس الحكم الانتقالي في العراق عام 2003.
يدرك الجميع أن الجعفري لم يبتعد يوما عن إدارة السياسة العراقية، فهو يستمد شرعيته من علاقته القوية بملالي قم، الحريصين على بقائه في دائرة الضوء ثقة في إخلاصه وولائه للنظام الإيراني. لذا لم يكن مفاجئا قول الجعفري إن من يتهم “حزب الله” بالإرهاب فهو إرهابي، وقوله في ذلك نصا “الحشد الشعبي وحزب الله حافظا على كرامة العرب ومن يتهمهما بالإرهاب هم الإرهابيون”، وهذا كلام لا يستحق الرد ولا مشقة استدعاء المعاني اللغوية اللازمة للتعبير عن هذه المرحلة من السفه والبلادة السياسية، فالجعفري أول من يقف على جذور الإرهاب الحقيقي في المنطقة، ويعرف تماما الأيادي المحركة لهذا الإرهاب من وراء الكواليس، سواء وجدت هذه الأيادي على أرض العراق الشقيق أو داخل الأراضي الإيرانية.
يريد الجعفري أن يصبح بطلا قوميا شيعيا لا بطلا قوميا عراقيا، فهو قد اختار الطائفية منذ خطواته الأولى في فضاء السياسة العراقي كما أشرت سالفا، لذا لم يكن غريبا أن يشعر بالسعادة لاستقباله من شيعة عراقيين في مطار بغداد عقب عودته المظفرة من القاهرة ومشاركته في اجتماعات وزراء الخارجية العرب، وكأن الرجل قد عاد بعد أن حرر أراضي العراق التي يحتلها “داعش” وميليشيات الحشد الشعبي، ذلك التنظيم الذي جلب بأموال ومساعدات إيرانية من دول إسلامية شتى.
عجبا لهؤلاء الطائفيين، يحتفلون بتطاول الجعفري الذي تسبب في انسحاب الوفد الدبلوماسي السعودي، وينسون ما تتعرض له بلادهم بسبب السياسات الفاشلة للجعفري وغيره من الساسة العراقيين، والأعجب من ذلك أن الجعفري يصدق نفسه ويخاطب مستقبليه قائلا “الدفاع عن الحشد الشعبي في كل الجامعة العربية وكل أندية العالم التي خطبت فيها ليس إلا جزءا من واجبي تجاه مجموعة نذرت نفسها وحياتها مستبسلة، ومثلت درعا حقيقيا يصون العراق من غائلة الأعداء والأحقاد”.
ويواصل تخرصاته تلك قائلا “لتعلم بعض الحكومات التي تتنكر لأبنائنا الأبطال فليعلموا لولا الحشد الشعبي في العراق لامتدت حشود الدواعش إلى بيوتهم، ومحال عملهم وعواصمهم، وإلى كل مكان يتواجدون فيه، وسيدركون ذلك ولو بعد حين”. حسنا يا سيد جعفري.. ألم يكن حريا بك أن تنقذ العراق الشقيق أولا من براثن “داعش” قبل أن تتباهى بأنك دفعت خطر هذا التنظيم الخبيث عن بيوت الآخرين ومحال عملهم وعواصمهم.
في تصريحاته لصحيفة “الرأي” الكويتية أيضا، يقول الجعفري إن العراق “استطاع أن يصمد رغم التحديات، ويكون نموذجا رائعا متكاملا”، ولا أدري شخصيا عن أي نموذج “رائع” ومتكامل يتحدث هذا الرجل الغائب عن الوعي بالأحداث، فبالأمس القريب قالها مايكل هايدن، وهو مسؤول أميركي سابق وثيق الصلة بدوائر صنع القرار الأميركية، معلنا أن العراق قد انتهى ولم يعد موجودا على خارطة المنطقة، فعن أي نموذج يتحدث الجعفري وعلى من يريد أن يمارس خداعه ويروّج أكاذيبه؟
ولكن يبدو أنني تعجّلت إبداء الدهشة من حديث الجعفري ولو أنني انتظرت قليلا لكنت قد فهمت ما قصده بالنموذج، فقد أشار عقب ذلك بأسطر قلائل إلى تمسكه بعلاقات العراق مع طهران، وقال إن إيران “تدخل أراضينا بفيزا عراقية وبإرادتنا وتحت إشرافنا” أي أن تسليم العراق إلى إيران يمثل “النموذج” الذي يحظى برعاية الجعفري وبقية الساسة العراقيين الشيعة ولا تحفّظ لديهم على ذلك، فالرجل، في الحقيقة، لا يمثل العراق ولا الدبلوماسية العراقية بقدر ما ينطق بلسان التيار الشيعي، فالجميع يتذكر أن أول زيارة للجعفري إلى طهران عقب توليه منصب وزير خارجية العراق كانت للمشاركة في مؤتمر ديني ناقش التطرف بحضور علماء دين وليس مسؤولين سياسيين، بل إن توقيت الزيارة تصادف مع عدم وجود وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في البلاد خلال تلك الفترة.
أشفق على عاصمة الرشيد من هذه الشرذمة الطائفية البغيضة، وأشفق أكثر أن يكون أمثال الجعفري ممثلين لهذا البلد العريق في لحظة تاريخية يحتاج فيها العراق إلى عراقيين حقيقيين لا مندوبين للمرشد الأعلى وممثلين لقادة الحرس الثوري الإيراني.