لا يكاد اسم "جامعة الدول العربية" ينطق في أي محفل نقاشي حتى يثور جدل محتدم حول فاعلية هذه المؤسسة العربية العريقة، التي يختلف الباحثون والخبراء حول تقييم دورها في الماضي والحاضر، ناهيك عن المواقف شديدة التباين للشعوب العربية حيالها؛ حيث يعتبر فريق من المتخصصين أن الجامعة العربية ليست سوى مرآة لواقع الدول الأعضاء، وأن مراوحتها بين المد والجزر.
تاريخيًا منذ نشأتها ليست سوى انعكاس لحالات مماثلة في المشهد العربي، بينما يرى آخرون أن الجامعة تعاني -بحد ذاتها- داء عضالاً، وأنها تعاني اختلالات هيكيلية وتنظيمية تضعف دورها وتحدّ من تأثيرها إقليميًا ودوليًا، وبين هذا وذاك يعتقد فريق ثالث من الخبراء والمتخصصين أن الواقع العربي المهترئ في مراحل ومحطات تاريخية عدة، أصاب مؤسسة العمل العربي المشترك بالوهن والضمور بالفعل، ولكن وجود شخصيات سياسية ذات ثقل على رأس هذه الجامعة كان يحدّ من هذا التراجع كثيرًا، ويظهرها بمظهر الفاعل الدولي المؤثر، ولو على المستوى الخطابي.
الرأي العام السائد في معظم الدول العربية يلقي باللوم غالبًا في ضعف دور جامعة الدول العربية على شخص الأمين العام، وهذا أمر لا ينطوي على كثير من الإنصاف والموضوعية، فالمتعارف عليه في رئاسة مثل هذه المؤسسات الضخمة أنها لا يمكن أن تكون مرآة لمهارات وقدرات الشخص الجالس على كرسي إدارتها، فالأمم المتحدة كانت -ولا تزال- محدودة التأثير في ساحات العمل الجماعي الدولي، وتعاني ضعفًا شديدًا في مواجهة نفوذ القوى العظمى، بغض النظر عن شخص الأمين العام، لدرجة أن ردود أفعال الأمين العام الحالي بان كي مون بات يضرب بها المثل في عدد مرات الإعراب عن القلق إزاء الأحداث والأزمات الدولية.
وأستطيع القول إن أداء الأمين العام للجامعة العربية قد ارتبط تاريخيًا بالظروف التي يمر بها العمل العربي المشترك، وطبيعة العلاقات بين العواصم العربية خلال فترة رئاسته، حيث تشير مواقف الأمناء العامين السابقين للجامعة إلى ضيق شديد في مساحات المناورة السياسية، بسبب التباين الحاد في مواقف الدول العربية حيال بعض القضايا والملفات المطروحة للنقاش على أجندة الجامعة، وبالتالي تصبح مخرجات الجامعة عبارة عن حصاد أو محصلة الجهود الجماعية، ولا ترتبط بأداء الجامعة وجهازها الإداري والسياسي.
قد يقول قائل إن هناك مراحل تاريخية شهدت فيها الجامعة العربية فورة في دورها السياسي إقليميًا ودوليًا، وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن استقراء الأوضاع يؤكد أن هذه الطفرة في الأداء ترتبت مباشرة على معطيات البيئة الإقليمية، ففي عقدي الخمسينيات والستينيات وبدايات من القرن العشرين، كانت القضية الفلسطينية في ذروتها، وكان الخلاف العربي/ العربي يكاد يكون معدومًا، وقبلها كانت فورة المد القومي، ولم يكن المشهد العربي محاطًا بكل هذا الكم من التعقيد والتشابك، الذي بلغ حد التضارب في المواقف والمصالح.
ما أقصده أن "حالة" العلاقات العربية/ العربية تنعكس بالتبعية على "حالة" جامعة الدول العربية، وهذه مسألة بديهية ولا خلاف بشأنها كثيرًا، ومن ثم تصبح قدرات الأمين العام مقيدة بهذه "الحالة"، فضلاً عن أنها مقيدة أساسًا بطبيعة علاقات كل دولة عربية بدولة المقر التي ينتمي إليها الأمين العام، وفقًا للعرف السائد حتى الآن، والأمر لا يقتصر على ذلك بل هناك معوقات وعراقيل أخرى معروفة ومسكوت عنها عربيًا.
في الوقت الراهن، تشعبت القضايا العربية وتعقدت واتسعت الملفات التي تشكل أزمة وتعددت، ولم تعد تقتصر على القضية الفلسطينية، التي كانت لا تخلو هي الأخرى -رغم مركزيتها- من تباينات حادة في الاتفاق على الحدود الدنيا للمصالح العربية العليا، وبات التمزق والاختلاف سمة رئيسية للمشهد العربي، وتحولت القمم العربية إلى "مناسبات" لإظهار العجز العربي في كثير من الاجتماعات.
والآن، وبعد مرور سبعة عقود من إعلان تأسيسها في 22 مارس 1945، فإن الإنصاف يقتضي منا القول بأنه إذا كانت الجامعة العربية لم تفلح في معالجة كثير من القضايا العربية بفعل ضعف النظام الإقليمي العربي وترهله، حتى تحول الكثير من قراراتها التاريخية ومواقفها القومية إلى مجرد أمنيات، وبقيت حبرًا على ورق لا تجد طريقها إلى التنفيذ، فإنها قد لعبت في سنواتها الأولى دورًا رئيسيًا في دعم بعض الشعوب العربية وتخليصها من القبضة الاستعمارية، وكانت فاعلاً أساسيًا في معارك الاستقلال والتحرر الوطني، كما لا يمكن إنكار رمزيتها القومية النفسية والمعنوية على أقل التقديرات، فالجامعة تبقى "بيت العرب" الذي لا غنى عنه، وكثيرًا ما يبرز دورها في مواقف الأزمات والشدائد.
ورغم أن خطط إعادة هيكلة الجامعة العربية وأجهزتها لم تجد طريقها إلى النور حتى الآن، فإن المأمول أن تكون المحطة السبعون في عمرها، بداية جديدة للإصلاح في ظل الأمين العام الجديد السيد أحمد أبو الغيط، بحيث تكون أكثر استجابة لتطلعات الشعوب والدول العربية، وأكثر مناعة وقوة في مواجهة ما هو قائم وآت من تحديات وتهديدات استراتيجية بالغة الخطورة للأمن القومي العربي.
الجامعة العربية -كآلية مؤسسية- لا تزال تجسد الحلم العربي، والإطار التنظيمي الحافظ لهذا الحلم، ومن ثم فإن الدفع باتجاه إصلاح هياكلها المؤسسية والتنظيمية يظل أفضل الخيارات الاستراتيجية المتاحة للإبقاء على مكان للعمل الجماعي العربي المشترك في زمن العولمة.