أثناء متابعتي لتطورات الأزمة السياسية الحاصلة في العراق، لفت انتباهي مؤخراً تقرير نشرته شبكة "بي بي سي" بعنوان الفقر يجبر العراقيين على بيع كلاهم"، حيث تناولت الشبكة واقعاً مؤلماً لنماذج من الأسر العراقية،
التي تعاني من "الفقر المدقع كحال الملايين من العراقيين" على حد وصف التقرير، وقرأت في هذا التقرير ما يحزنني على حال هذا البلد العربي العريق، لاسيما في ما يتعلق بمظاهر الفقر والحرمان التي أورد التقرير قصص حقيقية منها، واستغربت كيف يصل الحال ببعض العراقيين إلى جمع بقايا الخبز من الطرقات ليأكلوه، وكيف وصل الحال ببعض العراقيين إلى بيع جزء غال من أجسادهم من أجل الحصول على المال لإطعام أسرهم!. ويشير التقرير إلى رواج تجارة الأعضاء في بغداد نظراً لحالة الفقر المنتشرة في البلاد! لا يخفي على أحد أن العراق بلد نفطي كبير سواء من حيث الانتاج أو احتياطات النفط المؤكدة، ويمتلك موارد متنوعة قادرة على انتشاله من الأوضاع التنموية المزرية التي يعيش فيها نحو ربع سكانه على الأقل، كما أن قصة الفساد في العراق معروفة للجميع، ولا تحتاج إلى مزيد من اجترار "الحكايات" والقصص والأرقام للبرهنة عليها، ولكن المثير للاستغراب وسط طوفان الفساد وأكوام العفن الاداري والوظيفي المتفاقمة في البلاد هو موقف حكومة السيد حيدر العبادي، الذي يكتفي بالتصريحات الخاوية والشعارات الرنانة بشأن مكافحة الفساد منذ توليه منصبه في أغسطس 2014، ثم أعلن أن عام 2016 هو عام القضاء على الفساد، ولم يتحرك قيد أنملة باتجاه تنفيذ أجندة الاصلاحات التي وعد بها منذ العام الماضي، ورغم أنه يعترف علناً بأن الفساد قد "نخر" جسد الدولة العراقية! إحدى إشكاليات العبادي أنه سياسي واهم يحاول بيع الاحلام إلى شعبه، فقد قال منذ أسابيع في مؤتمر جماهيري أن العراق "مقبل على عهد من الانتصارات والاصلاحات"، رغم أنه يقر بأن بلاده قد خسرت نحو 85% من ايراداتها النفطية بسبب انهيار أسعار النفط. مشكلة هذه النوعية من القادة أنهم يتاجرون باحلام شعوبهم ويختارون بيع الوهم والمسكنات وحبوب "التخدير السياسي" إلى الفقراء والمعوزين، وهي مشكلة ذات أبعاد كارثية تتجاوز أخطارها الحدود الجغرافية للدول، فمن الصعب القبول بهذا المستوى المذهل من الفقر في بلد نفطي مثل العراق، ومن الصعب أيضا ارتهان حق الملايين في حياة كريمة للصراع السياسي البغيض الذي يستهدف الفوز بالنصيب الأكبر من "كعكة" الحكم. يبدو للناظر أن المشهد السياسي العراق يقترب في سوداويته من المشهد السياسي اللبناني، والقاسم المشترك بين الاثنان هو الطائفية البغيضة المتسلطة التي تمارسها الأحزاب والجماعات الموالية في معظمها لأطراف وقوى اقليمية وتعمل لمصلحتها وتنفذ أهدافها سواء في العراق أو لبنان. ويحلو للعبادي وغيره من الساسة العراقيين القاء المسؤولية على انهيار أسعار النفط، وهذا أمر صحيح جزئياً وهو جزء من الحقيقة وليس كلها، فالفساد الذي يكتنف عقود النفط العراقية يتسبب في نزيف هائل لثروات الشعب العراقي، الذي يبحث بعض أبنائه عن لقمة الخبر ويلجؤون لبيع إحدى كليتيهم من أجل توفير نفقات المعيشة، والفساد أيضاً في استمرار تهريب النفط العراقي. منذ أن أصابت عدوى "الرئاسات الثلاث" الساحة السياسية العراقية، بما تعنيه من محاصصة وصراع طائفي بغيض، والجمود هو سيد الموقف في هذا البلد، والعبادي لا يعترف ولا يقر بفشل مشروعه الاصلاحي رغم مرور أكثر من عام ونصف على توليه السلطة ولم يحقق أي تقدم يذكر في الوعود التي أعلنها. قد يقول قائل أن العبادي يواجه انقسامات حزبية حادة، تعرقل رغبته في تنفيذ الاصلاحات من خلال حكومة تكنوقراط قادرة على تلبية تطلعات الشعب العراقي، وهذا حجة غير مقنعة لرئيس وزراء يقود حكومة فاشلة بشهادة جميع الأطراف والقوى السياسية، وبالتالي ليس امامه سوى الاعتراف بالفشل وترك المهمة لمن يقدر عليها. ما يهمني في القصة بالاساس ليست عدوى الصراع السياسي الذي أصيب به العراق، ولا فشل رئيس الوزراء في تنفيذ الاصلاحات، ولكن المواطن العراقي البسيط الذي يتألم من أن أفق واضح لانقاذه ومد يد العون له، إذ من المؤلم أن نقرأ عن الأشقاء العراقيين يبيعون أجزاء من أجسادهم، ثم نستغرب بعد ذلك تمدد "داعش" و"القاعدة" في بلاد الرافدين وأرض الحضارات العريقة!! إحدى مخارج انقاذ العراق تتمثل في ضرورة أن ترفع إيران وميلشياتها وقادتها وحرسها الثوري أيديهم عن هذا البلد العربي، وأن تلعب دول مجلس التعاون دوراً حيوياً في إعادة العراقي العريق إلى حاضنته الطبيعية، وأمته العربية.