منذ ظهوره فى الأعوام الأخيرة، اعتاد تنظيم «داعش» ارتكاب جرائم تستهدف الاساءة للدين الإسلامي، ولا يبدو أن لها هدفاً حقيقياً سوى تشويه الصورة الذهنية لهذا الدين الحنيف.
فمن حرق الأحياء إلى بيع النساء فى الأسواق واستخدامهن «سبابا» و«جواري» للجنس، وهى أفعال لا يمكن أن يقرها الشرع الحنيف فى عصرنا الراهن، اعتاد التنظيم ارتكاب هذه الحماقات ونشرها على أوسع نطاق إعلامى ودعائى الكترونى ممكن.
أحدث حماقات التنظيم ما نقلته تقارير صحف غربية كبرى أخيرا بشأن بيع عناصر التنظيم للنساء الايزيديات المختطفات لديهم عبر موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»! وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن أحد الدواعش وضع صورة لامرأة وكتب تحتها «للبيع بقيمة 8000 دولار»، وذكرت الصحيفة أن حسابات عناصر التنظيم على الموقع الالكترونى تزدهر بعروض التجارة فى النساء وبيعهن.
وبطبيعة الحال، فإن هذا التنظيم الاجرامى قد رفع سقف الوحشية لدرجة أن جرائمه على صعيد بيع النساء الايزيديات لم تعد تلفت انتباه الكثيرين، رغم أن هذه الدرجة من الوحشية وانعدام القيم والأخلاق الإنسانية تصب فى الأخير لمصلحة أعداء الاسلام.
الإشكالية أن تنظيم «داعش» لم يزل يتمدد رغم الجهود الدولية لمحاربته، ورغم ادعاءات قوى كبرى مثل روسيا أنها وجهت ضربات قاصمة للتنظيم، فبالأمس القريب ذكرت التقارير الاعلامية أن «داعش» يحقق تقدماً على بعض الجبهات فى سوريا، وأنه يشن هجمات على محاور متعددة شمال البلاد! مما يؤكد زيف الكثير مما يقال عن جدية النيات فى محاربة هذا الفيروس السرطانى والتصدى لخطره.
وبمرو الوقت، تثبت الأحداث أن وجود هذه التنظيمات التى تتاجر بالدين وتتخذ من الاسلام شعارا لها، هو هدف حيوى للقوى الدولية والاقليمية، فقد فتحت هذه التنظيمات الباب واسعا أمام التدخل الخارجى فى كثير من دول المنطقة، وزلزلت قواعد الأمن والاستقرار، وتسببت فى تشريد ملايين النازحين واللاجئين من سكان دول المنطقة، وحققت مافشلت الحروب الاستعمارية فى تحقيقه خلال عقود مضت.
واعتقد أن ممارسات تنظيم «داعش» تنبع من فكرة أساسية وهى التحرك باسم الاسلام وتحت شعاراته بهدف الإساءة إلى هذا الدين العظيم فى عيون العالم ووضع غالبية المسلمين فى مربع الدفاع عن دينهم، وهى خطة شيطانية لا يمكن أن تنتهجها سوى مختبرات أجهزة استخباراتية تنظر بعداء إلى الاسلام السنى تحديداً.
من ناحيتي، ليس لدى أدنى شك فى تورط أجهزة استخبارات دول عدة فى «تخليق» الفيروس الداعشى ونشره إقليمياً، وفى مقدمتها اجهزة استخبارات الحرس الثورى الايراني، وهنا يجادل البعض بأن إيران تقاتل «داعش» فى العراق وسوريا، فكيف لها أن تقاتل تنظيماً أسهمت فى تأسيسه وتوسيع نفوذه، والاجابة هنا بسيطة للغاية، لأن إيران لم يكن لها أن تدخل العراق بهذه الجحافل من الميليشيات الشيعية وقادة الحرس الثورى سوى تحت غطاء تهديد وجودى مثل «داعش»، كما لم تكن هناك فرصة للوجود الايرانى فى سوريا سوى من خلال تمدد «داعش» واستيلائه على مناطق شاسعة من الأراضى السورية.
المعنى أن «داعش» هو «غطاء استراتيجي» واسع التأثير ليس لإيران فقط، بل لدول كبرى تقدم له التسهيلات اللوجستية وتغض الطرف عن تمدده الجغرافى لأسباب تتعلق بمصالح هذه الدول وطموحاتها التوسعية الرامية إلى إعادة هندسة الإقليم وفقاً لحسابات المصالح الاستراتيجية الجديدة عقب مرور مائة عام من توقيع اتفاق سايكس ـ بيكو.
الكثير من الخبراء يتحدثون ويناقشون تكتيكات حروب الجيل الرابع والخامس، ولكن لا أحد ينتبه إلى أدوات هذه الحروب، ولا أحد ينزل التنظير إلى أرض الواقع، ولم يسأل أحدنا نفسه: ألا يعد «داعش» أحد أدوات الجيل الرابع بامتياز ويحقق نجاحات قوية على صعيد تحقيق هدف تفكيك الدول والسيطرة على الأنظمة من دون حروب حقيقية؟.
ما يدفعنى إلى كل هذا الكم من الشكوك حول بقاء «داعش» وتمدده أن هذا كله يجرى من سوريا إلى ليبيا وغيرهما، تحت أنظار ورقابة وعيون الدول الكبرى، فى حين أن بدايات الحملة الدولية لمحاربة التنظيم قد دفعت بعض المراقبين وقتذاك للقطع بأن أيام «داعش» على قيد الحياة باتت معدودة!
لا أتحمس شخصياً لتفسير كل مايدور من حولنا وفق نظرية «المؤامرة» التى اعتاد الغرب القول بأنها تتفشى فى الذهنيات العربية، فهناك أمور لا علاقة لها البتة بمؤثرات خارجية بل هى نتاج اخفاقات وفشل داخلى ذريع على مستويات السياسة والإدارة، ولكن هناك بموازاة ذلك أحداثا وتطورات لا يمكن تفسيرها بمعزل عن هذه النظرية، التى هى بالفعل جزء لا يتجزأ من تفاعلات وديناميات العلاقات الدولية.
«داعش» ليس سوى حصان طروادة للتدخلات الاقليمية والدولية الرامية إلى إعادة تقاسم المصالح والنفوذ فى منطقة الشرق الأوسط، وبالتالى فإن التصدى لخطر هذا التنظيم وغيره من جماعات الارهاب وتنظيماته يمثل أولوية متجددة وملحة بالنسبة للدول العربية.
وأكثر ما أخشاه الفترة المقبلة أن يكون السيناريو المقبل قائما على تفكيك هذا التنظيم وتشظيه لتوسيع قاعدة هذا الفكر الوحشى ونشره فى مناطق شاسعة من العالم العربى والاسلامى من خلال المقاتلين العائدين من سوريا، الذين يحملون نواة فكر وحشى أكثر شراسة من الأجيال الارهابية السابقة، مما يستوجب الاسراع فى بلورة استراتيجيات جادة لمكافحة هذا التنظيم عبر خطة محكمة تبدأ من تجفيف منابع الامداد والتزويد، وصولاً إلى منع هروب عناصره إلى دولهم الأصلية فى حال انهيار سيطرة التنظيم على مناطق نفوذه الحالية، ومن دون ذلك ستبقى المنطقة تحت تهديد داعشى مزمن.