تابعت في الفترة الأخيرة سلسلة من النقاشات والخطوات التي اتخذتها فروع جماعة "الإخوان المسلمين" الإرهابية في دول عربية عدة، وكان العنوان العريض لهذه التحركات إعلاميًا على الأقل هو "المراجعات الفكرية"، وتركزت في مجملها حول فكرة الفصل بين "الدعوي" و"السياسي" في أنشطة الجماعة، التي وصفها البعض بالاتجاه "الإصلاحي" أو "التصحيحي"، وهناك من اعتبر أن الانشقاقات والتصدعات التنظيمية التي تعانيها الجماعة تنطوي على دلالات تتعلق برغبة جناح من الإخوان المسلمين في إعادة ترتيب الأوراق والابتعاد عن العنف والإرهاب.
الثابت في هذه المتغيرات المتسارعة أن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية باتت تستشعر حجم الرفض والنبذ المجتمعي الواسع لها، وتسعى بكل الطرق إلى معالجة هذه المعضلة الموجودة غير المسبوقة تاريخيًا، لأن الجماعة تجاوزت عدة مآزق مماثلة، تعرضت لها في عقود وسنوات سابقة عبر تقمص شخصية "الضحية" واللعب على فكرة المظلومية، ومن ثم العودة مجددًا إلى ساحات النزال السياسي، ولكن هذه المرة أخفقت جميع المحاولات لاستنساخ سيناريو مماثل، لأن ألاعيب الجماعة في إخفاء تورطها في العنف والإرهاب لم تحظ بأي صدقية لدى الشعوب العربية.
الحيلة أو المناورة السياسية التي ابتكرتها جماعة الإخوان المسلمين لتجاوز محنتها التاريخية الراهنة مجتمعيًا تأخذ منحيين أو اتجاهين واضحين أولهما يتمثل في الترويج لفكرة فصل "الدعوي" عن "السياسي" في أنشطتها، وقد أقرت حركة النهضة التونسية هذا التوجه في مايو الماضي خلال مؤتمرها العاشر، وقال راشد الغنوشي إن الحركة سوف "تخرج من الإسلام السياسي لتدخل في الديمقراطية المسلمة"، وهو الاتجاه ذاته الذي عبرت عنه بعض القيادات والرموز في جماعة الإخوان المسلمين المصرية.
وقد جاء هذا التوجه عقب تطورات مهمة لم تلفت انتباه غالبية المراقبين، أهمها إعلان مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين في الأردن منتصف فبراير الماضي إلغاء تبعية الجماعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وإنهاء أي تبعية لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، واعتبر المتحدث باسم الجماعة الأردنية أن العلاقة مع بقية فروع الإخوان المسلمين في الخارج كانت علاقات "تنسيقية" وليست "تنظيمية" وأن قرارات الجماعة الأردنية لا تتبع التنظيم الدولي. وهذا هو التوجه الثاني الذي تجلت فيه مناورات الجماعة للخلاص من مأزقها التاريخي. ولم يقتصر التوجه الخاص بإلغاء التبعية على إخوان الأردن، بل طال حركة "حماس" نفسها، التي أكدت انفصالها عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر تنظيميًا وفك ارتباطها بالجماعة الأم.
وقبيل التعمق في تفسير هذه التطورات، ينبغي الإشارة إلى دلالات الإعلان عن فك الارتباط مع التنظيم الدولي، إذ أن هذا الإعلان بحد ذاته يجسد حجم الكذب والخداع في ممارسات الإخوان المسلمين، فقادة الجماعة ورموزها لم يكفوا طيلة الأعوام الماضية عن محاولة نفي وجود "التنظيم الدولي" وزعموا أن الحديث عن هذا الكيان مجرد "أوهام تسكن عقول أصحابها"! ولكنهم عادوا اليوم ليعلنوا بألسنتهم فك الارتباك مع هذا "الكيان الوهمي"!!
هناك مناطق التباس لا تقبل الشك في علاقة جماعة الإخوان المسلمين المصرية ببقية فروع الجماعة في الدول العربية، فلو أن مسألة العلاقة التنظيمية غير قائمة من الأساس، فلماذا الإعلان عن فك الارتباط؟ ولو أن المسألة اقتصرت على "العلاقات التنسيقية" كما تزعم بعض فروع الجماعة فما هو الفارق بين "التنسيقي" و"التنظيمي" لاسيما أن الهياكل التنظيمية لكل جماعة قائمة بذاتها في كل دولة على حدة؟ وكيف يمكن فهم مسألة "العلاقات التنسيقية" بمعزل عن مبادىء الوطنية والولاء الوطني؟
الجزئية الأهم في هذا المقال ترتبط بالتوجه الخاص بالفصل بين "الدعوي" و"السياسي"، فالحديث في هذا الإطار ليس سوى نوع من المخاتلة السياسية، والأغرب من ذلك أن الإعلام قد وقع فريسة لهذه الألاعيب وروج لها باعتبارها نوعا من "المراجعات الفكرية"، في حين أن ما يحدث لا علاقة له البتة بالمراجعات الفكرية أو غيرها، فلم نسمع عن أن الجماعة قدمت قراءات نقدية جديدة معاصرة لأدبيات حسن البنا وسيد قطب، كما لم نسمع عن طروحات فكرية جديدة تنطلق منها دعوات فصل "الدعوي" عن "السياسي" بل إن ماحدث ليس سوى دعوات تكتيكية للفكاك من المأزق عبر حيل متلونة للعودة إلى الساحة المجتمعية، وتجاوز مساحات النبذ المجتمعي ثم التسلل مجددًا للسياسة عبر مسميات وعناوين وشعارات جديدة.
الثابت أيضًا أن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية ترتكز على أسس أيديولوجية منها العلاقة بين مفهومي الوطن والأمة، فالأمة هي الإطار الأشمل والأوسع والأهم في حين يبقى الولاء للوطن رهن شروط ومقاييس وضعها البنا وفق هواه، لذا نجد أن النقاشات الأخيرة لحركة النهضة ورموز جماعة الإخوان المسلمين في مصر قد كشفت تباينات في هذا الإطار، وأثبت أن الجماعة الأم لا تزال تتقوقع داخل مربع الجمود الفكري، فهي لا تزال تتمترس وراء أفكار حسن البنا، التي لاتتماشى مع فكرة فصل الدعوي عن السياسي.
خلاصة مايدور حتى الآن لا يرتبط ـ برأيي ـ بمراجعات فكرية للمواقف والتوجهات، بقدر ما يمثل نوعا من الانحناء للعاصفة والتقية السياسية والتظاهر بالقبول بالأمر الواقع من أجل احتواء الضغط المجتمعي وإعادة غسل السمعة والتطهر من الجرائم العنفية التي ارتكبتها عناصر الجماعة طيلة السنوات الأخيرة.
ولاشك أن مراجعة الذات والمواقف تمثل في جميع الأحوال خطوة إيجابية بحد ذاتها شريطة أن تتم بجدية وتكشف عن نوايا حسنة لتصحيح الأخطاء، ولكن أن تتم عبر إجراءات وشعارات شكلية تستهدف التغرير بالمجتمعات، فهذا الأمر ينطوي على أخطار جدية، لأنه يؤكد سوء النوايا وانتفاء أي توجه لتصحيح الأخطاء والاستفادة من دروس الماضي القريب؛ ففصل "الدعوي" عن "السياسي" أمر إيجابي شريطة أن يقوم على أسس وقواعد فكرية واضحة وليس بقرارات يمكن التراجع عنها بجرة قلم من جانب الرموز والقيادات التنظيمية التي فرضتها..
والمسألة لا تقتصر على "قرارات" حتى لو صدرت بالإجماع من مكاتب الإرشاد وما يعرف بمجالس شورى الجماعات، بل بخطوات تنفذ على أرض الواقع منها وقف التحريض وتوظيف المنابر لأغراض سياسية، ومنع المشتغلين بالعمل الدعوى التدخل في الشأن السياسي وإصدار الفتاوى السياسية، أي ببساطة تطبيق مبدأ الفصل بين الدعوة الدينية والعمل السياسي، ووقتها فقط يمكن القول بأن ثمة تغيرا قد حدث، وحتى يحين توقيت ذلك فإن ما يدور ليست سوى مناورات وثرثرة فارغة تستهدف خداع العقول.