طيلة الأعوام الأخيرة كان الحديث عن تجديد الخطاب الدينى يطغى على غيره من الأحداث والنقاشات فى الأوساط البحثية والسياسية ووسائل الاعلام التقليدية والجديدة فى العالم العربي. وتناولت فى أكثر من مقال لى خطر البقاء فى دائرة النقاش والجدال العقيم من دون الانتقال إلى مربع الفعل والتخطيط والتنفيذ، ولكن ما حدث بالفعل أن الجميع اكتفوا بالنقاشات والمطالبات والدعوات والنداءات وبقى الخطاب الدينى على حاله!!
تلك هى المأساة بعينها!! نحن نتكلم ولا نعمل ... نتحدث كثيراً ونعمل قليلاً... فقد شبعت فكرة تجديد الخطاب الدينى نقاشاً وجدلاً حول أهمية هذه التجديد تارة، وحول آليات التجديد واستراتيجياته ووسائله تارة أخري، ولكن انفضت النقاشات وصمت الجدل والمجادلون من دون أى نتيجة تذكر على صعيد بلورة خطط أو استراتيجيات قابلة أو حتى غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع!
حتى الآن،لم يخرج الخطاب الدينى من دائرة جموده وتطرفه وتشدده، بل استمر التشدد والتطرف والخطاب العنيف عبر وسائله ذاتها، وانحصرت محاولات التجديد المزعومة فى مطالبات ومناشدات، بحيث أصبح الكل يناشد الكل، فالجهات المعنية بالخطاب الدينى تناشد غيرها تجديد الدينى (!) والتنافس على أشده حول الظهور فى الفضائيات وعبر المنابر الإعلامية المختلفة للحديث عن أهمية تجديد الخطاب الدينى وجدواه، وكأن الأمر بحاجة إلى «تسويق» أو «ترويج» للفكرة، رغم أن المسألة محسومة والمجتمع فى غالبيته يدرك أهمية هذه الخطوة، بل وينتظرها بشغف لتخليصه من كارثة الإرهاب التى تهدد الأمن والاستقرار فى كثير من المجتمعات والدول العربية والاسلامية.
للأسف لم يتحرك أحد قيد أنملة نحو تجديد الخطاب الدينى لا عبر خطط مدروسة ولا حتى خطوات عشوائية ولو من باب ذر الرماد فى العيون، أو حتى لمجرد تبرير الكم الهائل من الانفاق المادى على المؤتمرات والندوات والمحاضرات التى عقدت طيلة العامين الماضين للدعوة إلى تجديد الخطاب الديني.
قناعتى الذاتية، أن نصف المخصصات المالية التى أهدرت على الأنشطة الاعلامية وشبه البحثية التى عقدت بهدف مناقشة تجديد الخطاب الدينى وآفاق هذا التجديد والعقبات التى تقف فى طريقه، وآليات تجديد الخطاب الدينى وغير ذلك، لو أن نصف مخصصات هذه الأنشطة قد أنفق على الفعل أو الموضوع ذاته، أى تجديد الخطاب الدينى لكانت أحوالنا أفضل بالتأكيد!! فلو أننا أنتجنا برامج تعريفية ذات محتوى جيد لتعريف الأجيال الجديد بجوهر ديننا الاسلامى الحنيف، ولو أننا أنفقنا نصف هذه المخصصات على دورات تدريبية جادة للدعاة والوعاظ المختصين لكنا قد ألقينا بحجر بل بكمية كبيرة من الأحجار فى مياه الخطاب الدينى الراكدة!
لماذا لم تتحرك مؤسسات دينية عريقة على درب تجديد الخطاب الديني؟ ولماذا اكتفى الجميع برفع شعارات الريادة والقيادة الروحية من دون بذل أى جهد حقيقى على صعيد انقاذ الشباب من فيروس الفكر الارهابى الذى ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعى كالنار فى الهشيم؟
نعم.. تخاذل الكثيرون حيث يجب أن يتحملوا مسئولياتهم التاريخية والدينية المقدسة فى معركة لا تقبل الانتظار. نعم ... اكتفى معظم علماء الدين الاسلامى بمراقبة مايدور من حولهم وحولنا، متخذين من بعض تصريحات ذر الرماد فى العيون ستاراً لتبرئة الذمة فى مواجهة تنظيمات الارهاب.
لا أقول هذا الكلام لكيل الاتهامات وتوزيعها، ولكن لأن الاستمرار على هذا الوضع ينذر بمزيد من العنف والارهاب والتشويه لديننا الاسلامى الحنيف، الذى اختطفته ثلة من الارهابيين المجرمين ونصبواً أنفسهم متحدثين باسمه ومعبرين عنه فى ظل صمت مخجل من مؤسساتنا الدينية العريقة، التى تكتفى بالتنديد والادانة من دون الانتقال إلى دائرة العمل والفعل والتحرك لتحصين الأجيال الجديدة ضد وباء الفكر الارهابي.
رغم كل ماسبق، فإن مجرد الحديث عن تجديد الخطاب الدينى قد تراجع وانحسر، وتآكلت الفكرة ذاتها، فهل استسلمت الغالبية لثقافة العنف والفكر الارهابي؟ أتمنى أن تكون مخاوفى فى غير محلها، وحتى نحصل على إجابات عن تساؤلاتنا ليس أمامنا سوى متابعة تمدد الفكر الارهابى الخبيث فى مناطق شتى من عالمنا العربي!