من يتابع الجدل المحتدم عبر وسائل التواصل الاجتماعى الأكثر انتشاراً وتفاعلاً واستخداماً فى عالمنا العربي(فيسبوك وتويتر تحديداً)، يدرك بسهولة أن أقدامنا تغوص فى وحل من المهالك التى لا يدرى معظم مستخدمى هذه الوسائل أبعادها ولا أخطارها ولا حجم تأثيراتها الاستراتيجية المتوقعة.
اعتاد الكثيرون من مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى على السخرية من الدعوة إلى تجنب الفتن والانسياق وراء دعاة الهدم ومروجى المؤامرات فى كثير من الدول العربية، وازدراء الآراء التى تحذر من المضى فى اتجاهات كارثية. صحيح أن هناك أناسا وشخصيات تظهر فى بعض وسائل الإعلام التقليدية تحذر من المؤامرات والفتن بطريقة أقل ما يوصف عنها أنها «كارثية»، من حيث كونها لا تحترم عقول الجماهير والشباب منهم تحديداً، ولكن هذا الغباء لا يعنى بالضرورة انتفاء الخطر أو عدم وجوده. التهوين من خطر حروب الجيل الرابع، التى يعد الاعلام رأس حربتها وأحد ابرز أدواتها هو استهانة بمستقبل الدول والشعوب، والأمر يتعلق بتطور الحروب والتهديدات الاستراتيجية واستخدام أدوات جديدة فى تنفيذ خطط الهندسة الجيوجغرافية والجيواستراتيجية لمناطق السيطرة والنفوذ العالمي، ولا يقصد بها أن هذه أو تلك من الدول تحديداً هى المستهدفة بكل هذه التعقيدات والتشابكات الكونية الراهنة. الثابت إذن أن هناك خططا ماضية على قدم وساق لإعادة تقاسم المصالح ومناطق النفوذ بحسب ما يطرأ من تغيرات استراتيجية جديدة اقليمياً ودولياً، وهذه الخطط لا ترتبط بمرحلة زمنية معينة، ولا تستهدف دولة بعينها، بل تمضى فى كل الأزمان بحسب معطيات كل مرحلة، وحيث تستخدم القوى الكبرى ومن ثم الإقليمية ما يستجد من أدوات لتنفيذ هذه الخطط التوسعية. لاشك أن ما يحدث من فوضى فى وسائل التواصل الاجتماعى يصل إلى حد الخطر بالفعل ومن دون أى مبالغة، لاسيما بعد أن انتقلت الحملات الفيسبوكية فى بعض الدول العربية من مرحلة النخر فى عظام الدولة ومفاصلها إلى مرحلة السعى إلى هدم الجيوش والمؤسسات العسكرية عبر خطط تبدو بدائية بسيطة، ولكنها فى غاية الخطورة على المدى البعيد، وتبدأ بالسعى إلى كسر هيبة الجيوش وتشويهها والنيل من صورتها الذهنية. يجب ألا نتعامل بسذاجة أو تهوين مع محاولات كسر هيبة الجيوش العربية وتدمير سمعتها وصورتها الذهنية عبر حملات فيسبوكية ممنهجة، فالمسألة فى غاية الخطورة، والهدف واضح ويتمثل فى تدمير معنويات الجيوش وقتل الولاءات الوطنية كجزء من خطة مستمرة منذ سنوات مضت لتقويض ركائز الدولة الوطنية فى المنطقة. صمن لايعرف كثيراً فيما يدور من حولنا عالمياً، قد يسخر من هذا الكلام، ويرى أن حملات السخرية والاستهزاء ببعض الجيوش الوطنية لها أسباب داخلية، أو بسبب الخلط بين المدنى والعسكرى وغير ذلك من أسباب واهية يبرر بها البعض حملاتهم الفيسبوكية ضد المؤسسات العسكرية، فالدور الوطنى الذى تضطلع به بعض الجيوش العربية من أجل مساندة الدولة الوطنية والحفاظ على تماسكها واستقرارها ليس جديداً ولا عابراً بل قامت ـ ولا تزال تقوم به ـ كثير من جيوش الدول فى العالم شرقه وغربه، ويخطىء من يظن أن الجيوش وجدت لتقاتل فقط، فقد كان هذا صحيحاً فى مراحل زمنية قديمة، ولكن دور المؤسسات العسكرية قد تطور بشكل هائل، وأصبحت تسهم بدور كبير فى خطط التطور التقني، التى تصب إجمالاً فى الاقتصادات الوطنية.
هدم الدول، هو العنوان الأخطر طيلة السنوات القليلة الفائتة، وغالباً ما تبدأ هذه الخطط التآمرية من تقويض جيوشها والزج بها فى صراعات داخلية، وإن لم تفلح هذه الخطط يتجه الفاعلون إلى خطط بديلة تتمثل فى تشويه الجيوش وتدمير سمعتها من أجل إحداث انقساكات داخلية فيها وانقسامات مجتمعية حول دورها؛ ومن ثم فإن المسألة لا تتعلق بأدوار الجيوش ومسئولياتها بقدر ما ترتبط ارتباطا وثيقا بنوايا الأطراف الأخرى والخطط المبيتة للجيوش والدول. فى ضوء ماسبق، فإن اللعبة الفيسبوكية الأخطر التى تمارس علناً هذه الأيام هى الاساءة للجيوش وتحويلها من مكانة عالية إلى مادة للتندر والسخرية والفكاهة، التى يشارك فيها البعض عن عمد وقصد، بينما يشارك بها آخرون عن جهل وضعف إدراك لما يدور من حوله، وهذه السلوكيات قد لا تجدى معها القوانين الصارمة أو التشديدات الرقابية بقدر ما تحتاج إلى وعى جمعى من الشعوب، وإعلام مهنى محترف قادر على التصدى لموجات الخطر والتآمر بجهود مهنية وشخصيات كفؤة قادرة على نشر الوعى الحقيقي، وليس عبر ممارسات إعلامية هزلية تعمق الأزمة وتصب فى مصلحة مستهدفى الدول والجيوش الوطنية وتخدم مخططاتهم.
أحد دوافع السخرية من الحديث عن حروب الجيل الرابع أن بعض الاعلاميين قد أسهموا فى تحويل الحديث عنها إلى مادة للفكاهة والتندر عبر طرحهم مفاهيم مثيرة للسخرية حولها،
فى ورقة بحثية صادرة عن مركز دراسة التهديدات المستقبلية فى الجيش الأمريكي، وُصفت حروب الجيل الخامس بأنها حروب هجينة تضم مجموعة من أنماط القتال المختلفة، بما فى ذلك حروب العصابات والأعمال الإرهابية والقدرات القتالية التقليدية، أى إنها نموذج مطور لحروب العصابات باستخدام تشكيلات وكيانات صغيرة قادرة على استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة فى القتال والاتصالات والإعلام. وتستخدم هذه الكيانات فنون القتال وحرب الشوارع والمدن بالإضافة إلى تكتيكات حروب العصابات والإرهاب معا وتضيف إليها كل ما يؤثر فى قوة الخصم مثل المخدرات والتزييف الإعلامى والإرهاب النفسى والمعنوي. وقد ذكرت فى مقال سابق لى أن ثمة فارقا مهما بين الجيلين الرابع والخامس من الحروب يتمثل فى إلغاء الحدود الجغرافية للدول وإلغاء مؤسسات الدول، فضلا عن التوظيف الجيد للتحالفات الدولية، بمعنى جمع الدول التى تشترك فى مصالح واحدة وراء هدف واحد وعدو مشترك. بالإضافة إلى الاعتماد المتزايد على الدعاية الإعلامية والحرب النفسية فى تدمير ثقة الخصم بنفسه، وتسهيل مهمة تفكيك الجيوش والطعن فى مقدرتها على مواجهة هذه العصابات والكيانات، وهذه فى مجملها مظاهر نراها فى وقتنا الحاضر فى مناطق عدة من حولنا. مصادر الخطر الاستراتيجى لم تعد تقتصر على تنظيمات الارهاب، بل باتت تشمل ممارسات أخرى لاتقل خطراً عن الارهاب مثل محاولات تقويض الجيوش الوطنية والنيل من سمعتها وهيبتها تمهيداً للانقضاض على الدولة ذاتها فى مراحل تالية.