كما كان متوقعا بالنسبة إلى البعض من المراقبين والمتخصصين تتجه الأمور إلى المزيد من التعقيد في الصراع الدائر على جبهتي العراق وسوريا حيث تعكس التصريحات النارية الصادرة عن الأطراف الإقليمية والدولية انقسامات حادة في المواقف، وتؤكد أن جبهة التحالف ضد الإرهاب لم تعد كما بدأت، بل تشهد انقسامات في المواقف والرؤى بين بعض أطرافها.
معركة الموصل تمثل إحدى النقاط الساخنة في الشرق الأوسط حاليا، فهزيمة تنظيم داعش وطرده من المدينة واستعادته لن تكون على الأرجح نهاية المطاف وبدء عودة الهدوء إلى ثاني أكبر المدن العراقية سكانا، حيث تحولت مدينة الموصل في الفترة الأخيرة إلى ساحة صراع تعكس حالة انقسام طائفي إقليمية بالغة الخطورة، فهناك تدخل عسكري مباشر لبعض القوى الإقليمية في هذه المعركة، وهناك تدخل عسكري ذو وجه طائفي قبيح للجانب الإيراني بالإضافة إلى انحياز مقيت للحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي للممارسات الطائفية الإيرانية التي تستهدف تفريغ الموصل من سكانها، والتلاعب بالخارطة الديموغرافية للمدينة العريقة ذات الغالبية السنية.
وهناك مخاوف سعودية منطقية أيضا عبر عنها وزير الخارجية عادل الجبير مؤخرا في مقابلة مع محطة سي إن إن الأميركية حيث قال “ما يقلقنا هو أن المقاتلين الشيعة سيدخلون الموصل، ويتورطون بسفك الدماء وعمليات القتل الجماعية، كما فعلوا في الفلوجة، وقد يؤدي ذلك إلى عواقب سلبية جدا وسيزيد من التوترات الطائفية في العراق، هذا هو أكبر خطر نراه، وأعتقد أن هذه الرؤية هي المدخل العقلاني بالنسبة إلى الحكومة العراقية لو أرادت بالفعل الترفع عن ولاءاتها وانتماءاتها الطائفية والتصرف كحكومة لبلد عربي كبير مثل العراق”.
إن اكتساء معركة استعادة الموصل بهذا الوجه الطائفي البشع هو أحد أسباب الأزمة الطائفية الحاصلة، والأمر لن يقتصر على البعض من دول المنطقة، فهذه الممارسات الطائفية تعد نقطة جذب قوية لتنظيمات الإرهاب والتطرف، وكان يجب على العبادي أن يتفادى ذلك حفاظا على وحدة شعبه ودرءا لما أخطر خلال المرحلة المقبلة.
قناعتي الشخصية أن حيدر العبادي، الذي سبق له تعيين الجنرال (التلفزيوني) قاسم سليماني مستشارا عسكريا للحكومة العراقية رغم وجوده بمنصب رسمي على رأس ميليشيات الحرس الثوري، لا يستطيع منع ميليشيات الحشد الشيعي من التدخل في معركة الموصل، أو حتى تحديد نطاقات عملها الميداني، فالميليشيات الشيعية لها قيادة منفصلة تتحرك وفق أوامر تتلقاها من طهران وليست من بغداد، وبالتالي فلا ولاية للعبادي ولا سيطرة له على هذه الميليشيات، ولكنه يعمل بمبدأ إقرار الواقع، ويحاول الظهور بمظهر رئيس الوزراء المسيطر على الأمور، رغم أن الجميع يدرك تماما حدود سيطرته البائسة على ما يجري في الموصل وغيرها من المدن العراقية، التي توغلت فيها الميليشيات الشيعية كما هو واضح للجميع.
لا يختلف اثنان من العقلاء على أن طرد داعش من الموصل وهزيمة التنظيم ثم البدء بعمليات تطهير وقتل جماعي للسنة العراقيين كما حدث في مدينة الفلوجة وغيرها، يمثل كارثة حقيقية جديدة قد تقود إلى صراع إقليمي طائفي واسع النطاق، فضلا عن أن السماح بمثل هذه الممارسات يمثل قبلة أوكسجين حيوية لتنظيم داعش وبقية تنظيمات الإرهاب، باعتبارها أفضل دعاية لما تردده هذه التنظيمات بشأن الدفاع عن سنة العراق، وأنها تخوض حربا طائفية وغير ذلك من الأكاذيب التي تروج لها المواقع الإلكترونية لهذه التنظيمات.
معركة الموصل قد تكون هزيمة لتنظيم داعش في العراق، ولكنها لن تكون بالضرورة بداية لتحقيق الأمن والاستقرار في هذا البلد العربي العريق، فما يحدث يتجاوز المنطق السياسي والاستراتيجي وسماح الحكومة العراقية للميليشيات الشيعية بخوض المعركة على أساس طائفي يمثل فتيل نار قد يشعل المنطقة بأكلمها.
إن استمرار العراق على هذه الوتيرة من أساليب الإدارة الطائفية لن يجلب لهذا البلد الشقيق استقرارا ومستقبلا مطمئنا، واستمرار الصراع الشيعي السني، ومحاولات إضعاف المكونين السني والكردي في العملية السياسية وإدارة الدولة العراقية، وهي محاولات يلعب فيها أيضا رئيس الوزراء السابق نوري المالكي دورا مؤثرا، لن تجلب للبلاد سوى الخراب والدمار وتكريس وضعيته تحت النفوذ الإيراني.
ومن المؤكد أن الجانب الأميركي يسعى للإسراع في حسم معركة الموصل قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، باعتبار ذلك خطوة مهمة تضاف إلى رصيد الإدارة الديمقراطية المنتهية ولايتها، ودعما مباشرا لموقف المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في هذه الانتخابات، ولكن على العبادي أن يدرك أن تحرير الموصل لا يعني وضع نهاية لمأساة العراق والعراقيين، فالتحدي الأهم في هذه المعركة إنساني بحت، فالنسيج الاجتماعي لمدينة الموصل قد تعرض ـ ولا يزال ـ لخطر كبير، سواء بفعل ممارسات تنظيم داعش واضطهاده للمسيحيين والإيزيديين فيها طيلة فترة سيطرته على المدينة، أو لما هو قادم على أيدي الميليشيات الشيعية الطائفية، وما سترتكبه حتما من أعمال انتقامية ضد السنة من سكان المدينة.
وتقع على المجتمع الدولي والولايات المتحدة تحديدا مسؤولية وقف أي أعمال طائفية عدائية ضد مسلمي العراق السنة في الموصل، وإلزام إيران بسحب ميليشياتها فور انتهاء المعارك ضد تنظيم داعش، وإلا فإن على الجميع أن يتوقع المزيد من الجرائم الإنسانية والإرهابية في منطقة لم تعد تتحمل المزيد من الكوارث.