هناك أبعاد وجوانب عدة تنطوي عليها أي دراسة أو نقاش علمي معمق لملف "المسيرة الخضراء"، التي نحتفل جميعاً بذكراها السنوية مع الأشقاء في المملكة المغربية هذه الأيام؛ وفي صدارة هذه الأبعاد والجوانب، يبرز جانب التخطيط الاستراتيجي ودراسة البدائل المتاحة في التعامل مع الأزمات، وهو أحد أهم الأبعاد في دراسة هذا الملف من وجهة نظري ـ كباحث ـ لاسيما في ظل محدودية الخيارات الاستراتيجية المتاحة أمام القيادة المغربية، آنذاك.
واقعياً، يمكن القطع بأن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، قد تميز بشكل عام بخبرة تاريخية عميقة ومقدرة هائلة على اتخاذ القرار المناسب في التوقيت المناسب لمصلحة بلاده وشعبه؛ ولقد كانت قضية الصحراء من بين القضايا المصيرية، التي استخدمت فيها القيادة المغربية هذه الخبرة والحكمة والرشادة السياسية، ولجأت إلى توظيف آليات "القوة الناعمة" لتضغط على أسبانيا كي تخضع للشروط المغربية وقتذاك، فكان قرار اللجوء إلى حشود "المسيرة الخضراء" انعكاساً لفهم واستيعاب عميق لتوازنات القوى الاستراتيجية، التي كادت أن تضع المغرب في مواجهة هامش مناورة ضئيل، ولكنها الحكمة ضالة المؤمن، وقد وجدها في استخدام الضغط المعنوي الهائل على الجانب الأسباني. ومن ثم فقد التئمت الحشود الهادرة من كل حدب وصوب في أرجاء المغرب الشقيق في السادس من نوفمبر عام 1971، تلبية لدعوة وطنية من العرش المغربي، وانطلق المتطوعون جميعاً في حشود جارفة تحت راية "المسيرة الخضراء"، التي كانت استخداماً سلمياً معبراً للضغط من أجل الاستجابة لمطالب مغربية عادلة ومشروعة في أرضه واستعادة سيادته الترابية عليها.
كانت المسيرة الخضراء ترجمة لإرادة سياسية استهدفت استعادة سلطة المملكة المغربية على كامل ترابها الوطني، فكانت المسيرة هي التحرك الأهم لاستعادة الصحراء بعد نحو 75 عاماً من الاحتلال الأسباني، فكان التحرير بالإرادة، وكان التحرير باستخدام مزيج فريد من الضغوط البشرية والتخطيط السياسي، في مشهد لم يكن من السهل التخطيط له وقيادته وتنفيذه من دون ضمان أن لا ينزلق إلى الاضطراب أو يشهد أي قدر من الخسائر البشرية، فكان التخطيط والسير في "نظام وانتظام" من جانب المتطوعين تنفيذاً لتعليمات واضحة بهذا الشأن من صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني ـ أكرم الله مثواه ـ تركيزاً على الهدف وضمان أن تكون الضغوط البشرية الهادرة وسيلة حقيقة فاعلة لإجبار سلطة الاستعمار على الجلوس إلى مائدة التفاوض وتوقيع اتفاق رسمي ينهي سيطرتها على جزء غال من الأرض المغربية.
لم تكن المسيرة الخضراء إذن مجرد تحركاً تقليدياً لكتلة بشرية ضخمة، فلم يكن الهدف هو استعراض هذه القوة البشرية الهائلة، بل كان الهدف حسن توظيفها واستثمارها في الضغط من أجل انتزاع مكاسب استراتيجية محددة، وهنا يأتي دور عنصر التخطيط السياسي والاستراتيجي، حيث جاء هذا التخطيط على محاور عدة، بعضها يتعلق بخطة الحشد وتفويج مئات الالاف من المشاركين، وضمان سلامتهم وتنقلهم الآمن، والجوانب اللوجستية والأمنية وغير ذلك من تفاصيل ضاغطة في مدة زمنية قصيرة بين إطلاق المبادرة التاريخية للمسيرة الخضراء وتنفيذها على أرض الواقع. والبعض الآخر من هذه التفاصيل المهمة يتعلق بإدارة المفاوضات مع الأطراف الخارجية والدولية ذات الصلة بالقضية، من أجل ترجمة التحرك الميداني التكتيكي إلى مكسب استراتيجي كما هو مستهدف.
كان من الوارد، بل إن من المفترض أن من ضمن سيناريوهات التخطيط في حالات كهذه، ألا يفلح الأمر ويخفق القائمين عليه في استثماره استراتيجياً وسياسيا، حتى إن بعض الروايات التاريخية الموثوقة تتحدث عن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني ـ أكرم الله مثواه ـ كان يدرس أو يستعد فعلياً لتقديم استقالته في حال فشل المسيرة الخضراء في تحقيق أهدافها، نظراً لما ينطوي عليه الأمر من حرج بالغ لجلالته وقتذاك، ولكونه يفكر بعقلية رجل الدولة الجاد المسؤول عن قراراته ويتحمل عواقبها. ولكن رشادة التخطيط تتجلى في مرحلة مابعد تدشين المسيرة الخضراء، حيث كانت القيادة المغربية دقيقة وقديرة في استثمار اللحظة، وتحقيق أقصى مردود استراتيجي ممكن من الدعم والغطاء الشعبي الهائل الذي يدعم موقفها وقراراتها وتوجهاتها تجاه الصحراء، فكانت خير معبر عن إرادة شعبها، وخير ممثل لهذه الإرادة الوطنية الجياشة، فكان للقيادة والشعب المغربي ما أرادوه وما تم التخطيط له من أهداف مدروسة.
إننا في مواجهة لحظة تاريخية مصيرية فارقة، في مواجهة لحظة قرر فيها قائد عظيم ـ اكرم الله مثواه ـ أن يغامر بمستقبله السياسي في الحكم بحثاً عن تحرير جزء غال من أرض بلاده، لذا كان لمثل هذا القائد أن يفكر بعمق في مختلف جوانب الصورة وسيناريوهاتها المحتملة، ومنها بطبيعة الحال خيار الفشل "لا قدر الله"، فقد كان يدرك مسبقاً أنه يقدم على عمل لا يقوم به سوى أبطال يضحون بأنفسهم من أجل بلادهم، فكان المشاركون متطوعون يدركون صعوبة ومشقة ماهم مقدمون عليه، ولم يكن هناك إجبار أو تكليف، بل كان عملاً تطوعياً بطولياً يضم ممثلين لكل بقعة من بقاع الوطن، حتى أنه تم تخصيص "كوته" للنساء المغربيات، كي يقمن بواجبهن الوطني في تحرير الأرض، لتضرب المملكة المغربية منذ عقود مضت نموذجاً رائعاً لدور المرأة العربية المسلمة في الدفاع عن الأرض وتحريرها.
استغرق التخطيط للمسيرة الخضراء نحو شهرين قبل الاعلان عنها رسمياً، وكان التخطيط وتبال المعلومات والتنسيق بين الأطر المؤسسية يتم في سرية بالغة من قبل الفريق الرسمي العامل على وضع الخطط اللازمة لها، حيث كان تسرب الخطة كفيلاً بالعمل على إفسادها من قبل الأطراف الخارجية المعنية، وتشير الأدبيات التاريخية التي تروي يوميات المسيرة الخضراء ووقائعها، إلى أنها واجهت في بعض المراحل اختبارات صعبة، لاسيما بعد أن استنفرت اسبانيا قواتها وقامت بمحاولات لعرقلة مسار الحشود المغربية المتدفقة، فلم تنجح امام إرادة شعب أبى إلا أن يقبل ثرى أرض جزء غال من وطنه.
عندما استغرق بكل حواسي في كتب التاريخ وروايتها التي تتناول "المسيرة الخضراء" أجدني أمام انجاز وطني عظيم لا يقل في تاريخيته عن منعطفات كثيرة يحتفي ويحفل بها تاريخ أمتنا العربية، فالتخطيط العسكري كان حاضراً جنباً إلى جنب مع التخطيط الميداني، فهناك جانب التمويل المالي الضخم بحسابات ذلك الوقت، والذي تم عبر آليات ومنافذ مختلفة داخلياً وخارجياً، وكان أيضاً تحريك دقيق حشود المغاربة رافقه تحريك أدق لحشود القوات المغربية كي تحل آلياً محل القوات الأسبانية بمجرد أن تخلي الأرض، ولكن قليل من يتناول هذا الجانب البطولي، الذي كانت مهمته تأمين السيطرة على الأرض بعد نجاح تنفيذ خطة المسيرة الخضراء، فالمبدأ الحاكم في مثل هذه الحالات من الفراغ الأمني والعسكري أن الأرض لمن يسيطر عليها، فكان التخطيط الشامل والدقيق هو خير ضمان لتحقيق الأهداف.
تخطيط دقيق تتوارثه القيادة المغربية الرشيدة، واليوم نرى صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يضيف إلى سجل حافل بالحكمة ورشادة القرار، عبر إدارته السياسية الواعية والحكيمة لملف قضية مصيرية هي جزء من كفاح الأشقاء المغاربة ونضالهم الوطني التاريخي من أجل بلادهم، وبالوعي والحكمة والرشاد السياسي ذاته يدير ـ جنباً إلى جنب ـ ملف التنمية والتحديث في المملكة المغربية، فنجد المضي إلى الأفضل إلى مستقبل واعد ينتظرهم، هو حال أشقائنا في هذا البلد العربي الأصيل.