اندلعت في تونس مؤخرًا مظاهرات احتجاج تندد بعودة الارهابيين الذين شاركوا في القتال في العراق وسوريا وليبيا إلى تونس، وفي هذا الإطار تقول السلطات التونسية إن هناك نحو ثلاثة آلاف تونسي سافروا إلى مناطق حرب وبؤر توتر في المنطقة، وعاد منهم نحو 800 ارهابي إلى البلاد، فيما تتحدث مصادر أجنبية عن أن عددهم يبلغ نحو 5800 عنصر إرهابي في سوريا يحملون الجنسية التونسية.
القلق يسود الأوساط التونسية جراء احتمالات عودة المزيد من هؤلاء الإرهابيين هربًا من الضربات المتزايدة التي يتلقاها تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسوريا، ما يجعل مصير هؤلاء بمنزلة أزمة حقيقية لدولهم.
سيناريو عودة الإرهابيين المنخرطين في القتال ضمن صفوف تنظيم "داعش" تعيد إلى ذاكرتنا ظاهرة "الأفغان العرب" أو "العرب الأفغان"، التي برزت بقوة بعد انتهاء القتال ضد قوات الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان، وعودة الكثير ممن كان يطلق عليهم "المجاهدين" من أفغانستان إلى دولهم العربية والإسلامية، حيث كانت هذه العودة إيذانًا بكوارث أمنية تورطت فيها هذه العناصر، التي اعتادت القتال واكتسبت خبرات قتال غير عادية في حروب العصابات واستخدام الأسلحة والمتفجرات، وتحولت الحرب بالنسبة لها إلى مصدر رزق، أو بالأحرى ارتزاق وتربح يصعب الاستغناء عنه بسهولة، والعودة مجددًا إلى الحياة الطبيعية.
منذ فترة، حذرت في مقالاتي من سيناريو وعواقب عودة مقاتلي "داعش" إلى دولهم، سواء العربية منها أو الغربية، وكيف أن هذه العودة قد تتسبب في كوارث أمنية لهذه الدول، ولكن يبدو أن أحدًا لم يستعد لهكذا سيناريو، ولم يدر بخلد المسؤولين في هذه الدول ضرورة إيجاد بدائل تحول دون عودة هذه العناصر إلى بلادها مرة ثانية خشية أن ينقلوا معهم أفكارهم وخططهم وخبراتهم القتالية، ناهيك عن كونهم عاطلين لن يجدوا عملًا، وسرعان ماسيتحولون إلى البحث عن مصدر دخل جديد، غالبًا ماسيجدونه في العمل الارهابي بالوكالة لمصلحة أطراف وقوى اقليمية أو دولية جاهزة لتمويل مخططاتهم ومؤامراتهم، او إسناد مخططات ومؤامرات لهم لتنفيذها بالوكالة!!
رفع بعض المتظاهرين في تونس شعارات تطالب حكومة بلادهم بسحب الجنسية من هذه العناصر الارهابية، في ما طالب آخرون بضرورة إحالتهم إلى المحكمة الجنائية الدولية للقصاص منهم جراء ماتركبوه من جرائم ارهابية تسببت في تدمير دول وتشريد ملايين البشر في هذه الدول.
يقول القانونيين إن تونس لا تمتلك بنى تشريعية للتعامل مع حالات عودة الإرهابيين من مناطق الصراعات الطائفية والمذهبية، ويبدو أن الأمر لا يقتصر على تونس فقط، بل يمتد ليشمل معظم دول العالم، التي يمكن أن تقف عاجزة عن التصدي لهذا الخطر الداهم من خلال الأدوات والآليات القانونية القائمة، حتى لو كانت ترسانات من القوانين والتشريعات التي لم تكن تعرف مثل هذا الخطر في العقود والقرون السابقة.
الغريب أنه رغم حجم التهديد الأمني الناجم عن وجود آلاف العناصر الارهابية العائدة إلى بلادها، نجد أن هناك من يعتبر منعهم من العودة أمرًا غير دستوري، أو ان يعتقد بامكانية إعادة دمج هؤلاء الارهابيين في مجتمعاتهم الطبيعية.
الثابت في مثل هذه الحالات أن الدساتير والقوانين إنما وضعت للتعامل مع حالات طبيعية في ظروف طبيعية، وبالتالي فإن تطبيقها على حالات أو ظروف غير مسبوقة يصبح بمنزلة مجازفة غير محسوبة العواقب، فالتهديدات الأمنية تتجدد وتتعقد، ويصبح قياسها وفقًا للبيئة التشريعية والقانونية والدستورية السائدة نوع من المجازفة بامن الأوطان ومستقبلها.
للموضوعية، فإن ظاهرة العائدين من سوريا لا تقتصر على تونس وحدها، بل تشمل معظم الدول العربية، وإن كان لتونس قصب السبق في فتح هذا النقاش المثير للجدل حول مصير هؤلاء، ولكن النقاشات تدور في كل بلد حول هذا الملف على مستويات مختلفة.
هذه الأزمة المستفحلة لا تقتصر أيضًا على تونس أو غيرها من الدول العربية بل ستتكرر بشكل أكثر عمقًا وتعقيدًا في دول أوروبية سافر العشرات، وربما المئات من رعاياها إلى العراق وسوريا وانخرطوا في صفوف تنظيم "داعش" لسنوات طويلة اكتسبوا خلالها خبرات قتالية تؤهلهم لتقويض الأمن في هذه الدول.
الفارق بين بعض دولنا العربية وأوروبا أن مراكز الدراسات والمؤسسات المعنية تناقش السيناريوهات المحتملة في هذا الإطار منذ بداية هذه الظاهرة الأمنية المقلقة، أي التحاق بعض مواطني الدول الغربية في صفوف "داعش". ففي ألمانيا، التي تحتل المرتبة الثالثة أوروبيًا، بعد فرنسا وبلجيكا، من حيث عدد المقاتلين في صفوف "داعش"، تشير احصاءات إلى أن ثلث العناصر التي سافرت إلى سوريا قد عادت إلى ألمانيا بالفعل، وأن القضاء يواجه معضلة في محاكمتهم بجرائم عدا الانتماء لتنظيم ارهابي.
الدول الأوروبية مثل ألمانيا، تطبق مشروعات تنطلق من دراسة حالة كل عنصر ارهابي عائد على حدة، من اجل تحديد امكانية إعادة دمجه مجتمعيًا بشكل طبيعي، وإخضاعه لبرامج تثقيفية وتوفير سبل الحياة والعمل له من أجل احتواء خطر هؤلاء، ولكن لا تزال المخاوف تتنامي حول وجود احتمالية عالية لعودتهم إلى التطرف والارهاب مجددًا تحت أي ظرف من الظروف.
الإشكالية الأساسية، برأيي، ليست في استعداد المجتمعات والدول لقبولهم فقط، بل تكمن في مدى استعداد هؤلاء الارهابيين للتخلي عن أفكارهم ومعتقداتهم والعودة للاندماج بشكل طبيعي في المجتمعات، فالتجارب تشير إلى أن معظمهم يعود بمنطق التخفي ولكن الفكرة تظل قابعة في رأسه ولا يبدي أي استعداد للتخلي عنها، وربما يتخذ من عودته فترة استعداد أو تجنيد استعدادًا للانضمام إلى تنظيمات أخرى، ومناطق صراع جديدة تحت شعارات ولواءات مذهبية جديدة، ما يعني أن الأمر ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض، وأن مجرد عودة هؤلاء كفيل بانهاء المخاوف المثارة بشأنهم.