في مقال سابق لي، تحدثت عن وجود احتمالية لتضارب المصالح بين روسيا وإيران في سوريا، وطرحت تساؤلات حول امكانية تضحية روسيا بعلاقاتها مع الحليف الايراني مقابل التقارب مع إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، أو بمعنى آخر طرحت تساؤلاً مفاده: هل يقدم الكرملين تحالفه مع الملالي المتشديين في طهران قرباناً لإصلاح علاقاته المتدهورة مع الولايات المتحدة عقب رحيل إدارة أوباما التي اختتمت عهدها بخلاف وتوترات مع الكرملين؟. روسيا تريد الاحتفاظ بقواعد بحرية وجوية في سوريا،
ولن تتخلى عن ذلك، أما إيران فقد سارعت إلى التوقيع على اتفاقيات مع نظام بشار الأسد، أهمها ما يتعلق بانشاء ميناء نفطي في سوريا وتم بالفعل تخصيص مساحة قدرها 5 ألاف هكتار لذلك، من دون الاعلان بدقة عن موقع هذا الميناء، الذي يتوقع أن يكون على الساحل المتوسطي بالقرب من مدينة بانياس التابعة لطرطوس، أي بالقرب من مرفأ قامت روسيا بتطويره وتوسعته مؤخراً ليكون قاعدة عسكرية دائمة لها. هذه الاتفاقات وقعت أثناء زيارة قام بها رئيس حكومة النظام السوري، عماد خميس، إلى طهران مؤخراً، حيث دعا الجانب الايراني للمشاركة في اعادة إعمار سوريا، في خبر يعد من المبكيات المضحكات، وكأن إيران التي شاركت بقوة في تدمير سوريا، جنباً إلى جنب مع تنظيمات الارهاب وميلشياته وقوى أخرى دولية، مدعوة الآن لنيل نصيبها من الكعكة السورية عبر عنوان عريض هو إعادة الإعمار!!. لا زلت عند رأيي بأن ثمة تضارب مصالح قائم بين إيران وروسيا في سوريا، وليس أدل على ذلك من لهجة الخطاب السياسي الروسي، التي باتت مختلفة عما سبق، فمؤخراً وجه سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسية حديثاً وصفته التقارير الاعلامية بأنه رسالة واضحة إلى الجانب الايراني، ذكر فيها أن التدخل الروسي حال دون سقوط مؤكد للعاصمة السورية دمشق بين أيدي المجموعات المسلحة، وأن وجود مستشارين إيرانيين والآلاف من عناصر الميليشيات المرتبطة بطهران لم يكن ذا قيمة لولا التدخل الحاسم للقوات الروسية. هذا الكلام صريح وواضح، حيث انتهت السكرة وجاءت الفكرة كما يقال، وتصريحات لافروف جاءت في سياق رد ضمني على تقارير تحدثت عن مساع إيرانية حثيثة لتعطيل مسار مفاوضات آستانة، ووضع عراقيل أمامها من خلال دفع المعارضة السورية المسلحة إلى مقاطعة هذه المفاوضات لإفشالها قبل أن تبدأ، لاسيما أن هناك قيادة روسيةـ تركية لمسار التسوية مع تهميش إيراني واضح. والأهم من ذلك ان التفاهم يقضي بفرض وقف لإطلاق النار على جميع الفرقاء بما في ذلك القوات السورية، وأيضاً ميلشيات حزب الله اللبناني والحشد الشيعي التابع لإيران. اعتبر المراقبون تصريحات لافروف بمنزلة تذكير لقادة الحرس الثوري الايراني في سوريا بحقيقة مايدور على الأرض، وأنه لولا التدخل الروسي الجوي لسحقت ميلشياتهم في سوريا، ومن ثم عليهم الاستماع لتعليمات موسكو والكف عن اللعب بالنار في سوريا. منذذ ظهور مؤشرات التفاهم التركي ـ الروسي في سوريا كان واضحاً ان هناك تفاهم مواز يقضي باقصاء إيران، وكان هناك أيضاً مايشبه الصفقة التي تقضي بأن تضمن روسيا اسكات الأسد والضغط عليه، مقابل أن تضمن تركيا الاتيان بمجموعات المعارضة المسلحة، وهي صفقة لم تستطع إيران معارضتها علناً كي لا تغامر باغضاب الحليف الروسي، ولكنها سعت إلى تقويضها من خلال تحريض حلفائها على خرق اتفاق وقف إطلاق النار، وإرباك الوضع على الأرض، وهو أمر اعترفت به تركيا على لسان أحد مسؤولي وزارة خارجيتها الذي قال إن إيران "تشعر بالانزعاج" من التقارب التركي الروسي في الملف السوري. والحقيقة أن قلق إيران من هذا التقارب لا يغير من الواقع شيئاً، فأوراق إيران في الضغط قليلة وهامش المناورة أمامها ضيق، لاسيما أن من الصعب أن تغامر طهران بإغضاب الحلفاء الروس في وقت تستعد فيه للتعامل مع إدارة أمريكية متحفزة ضدها، ولو أن هذا الاتفاق قد تم قبل نحو ستة أشهر من الآن لكان موقف إيران قد تغير حيث كانت ستضمن وقتذاك صمت إدارة أوباما على أي مغامرة تقوم بها في سوريا، بل ربما كانت تلك المغامرة ستحظى بدعم إدارة الرئيس السابق أوباما، الذي كان يسعى لإغراق روسيا في مستنقع سوري. لا خلاف على أن الدبلوماسية الروسية تتعامل مع الملف السوري الآن باعتباره ورقة مساومة مع كل الأطراف ذات الصلة، ولا تنظر للأمر بنفس منظار الايرانيين، الذي يعتبرون سوريا بوابة تمديد للنفوذ الشيعي الطائفي الايراني. روسيا ربما تحرص على أن يكون ملف سوريا بوابة التقاء مصالح، وليس تنافس، مع إدارة ترامب، بل ربما يتنازل الرئيس بوتين عن بعض مطامعه في سوريا لتعزيز موقف "صديقه" ترامب في الداخل الأمريكي، ومنحه أول انتصار سياسي خارجي، كما لم ينس بوتين إرسال بادرة ايجابية للسعودية عبر دعوة أحد المحسوبين عليها للمفاوضات في آستانة. ثمة إشارة اخرى في سوريا تتعلق بموقف وكلاء إيران مثل حزب الله اللبناني، الذي يرجح أن يخرج من سوريا بناء على طلب روسي تنفيذاً لاتفاق وقف إطلاق النار، وهناك مصادر إعلامية تشير إلى أن الأسد راض عن خطط روسيا لترحيل كافة الميلشيات من الأراضي السورية، بما فيها ميلشيات الحشد الشيعي الموالية لإيران، حتى لا تكون ورق ضغط إيرانية عليه مستقبلاً، وهناك تقارير أخرى تتحدث عن غضب إيران من استقواء الأسد بروسيا لإخراج الميلشيات ومسارعته إلى الترحيب بشروط وقف إطلاق النار من دون التشاور مع حلفائه الايرانيين، بمعنى أن الأسد يتلاعب بكل الحلفاء من أجل مصالحه!!. الواقع أن لحظة تقاسم النفوذ والمصالح بين القوى الاقليمية والدولية في سوريا قد حانت بالفعل، أو ستحين إن أو عاجلاً، وللأسف أن هذا يحدث وسط غياب تام للدور العربي، على المستوى الفردي والجماعي، حيث يكتفي العرب بموقف المتفرج لمباراة تقاسم المصالح الجارية في الملعب السوري، والتي يجري الاستعداد لها في آستانة وربما محطات تفاوضية أخرى لاحقة.