يبدو أنه لم يعد للعرب في المشرق والمغرب سوى متابعة خلافات الدول وصراعتها من أجل الاصطفاف وراء هذه ضد تلك، وإطلاق "الهاشتاجات" دعمًا لهذا ضد ذاك، ومن المضحكات المبكيات أن نتابع اشتباكات العرب اللفظية حامية الوطيس عبر "السوشيال ميديا" تأييدًا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضد ساسة هولندا وألمانيا، أو دعم هاتين الدولتين ضد "عنجهية" أردوغان!!
من الناحية النظرية البحتة، بل والعملية والواقعية والفعلية، هي معركة لا ناقة للشعوب العربية فيها ولا جمل، فلن يضيرهم تراجع تركيا وهزيمتها سياسيًا في سجالها مع الأوروبيين، ولن يفيدهم بالمقابل انتصارها، ولكن هكذا أصبح حال غالبية "الفيسبوكيين" العرب، فقد امتدت خلافاتهم حول قضايا داخلية إلى الخارج.
في الماضي القريب، وقف الكثير من "الفيسبوكيون" العرب ضد تركيا أثناء أزمة اغتيال السفير الروسي لدى تركيا في ديسمبر الماضي، وتمنى بعضهم أن يشن الرئيس بوتين حربًا ضروس ضد الأتراك انتقامًا لمقتل السفير الروسي، ولكن ذلك لم يحدث فانقلب الحال وامسك الإعلام "الإخواني" دفة الصراع مهاجمًا إياهم (!!) والموقف ذاته يتبناه من خاب ظنهم في جولة اغتيال السفير الروسي في الخلاف القائم حاليًا بين الرئيس أردوغان وهولندا وألمانيا، حيث يطالب هؤلاء، الساسة الألمان والهولنديين باتخاذ مواقف حادة وعنيفة ضد تركيا، بل ويذهب بعضهم لدعوة برلين لشن الحرب ضد "السلطان المتغطرس"!
لا أميل في مثل هذه الخلافات والسجالات بين الدول إلى طرف دون الآخر بحسابات العاطفة، ولا اتبنى تحليلًا بالتمنى، فالأمور في العلاقات الدولية لا تمضي بهذه البساطة، كما يتصور البعض، ممن يعتقدون أن مصالح الدول خاضعة لحسابات ذاتية أو انفعالات لحظية وردود فعل عشوائية!!
الإعلام التابع لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية يخوض في أي أزمة تخص تركيا بشكل مثير للسخرية والرثاء، ويصور لأتباع الجماعة أن الرئيس أردوغان هو "البطل المخلص" للعالم الإسلامي، وأن الرجل يخوض معاركه نيابة عن عالم عربي وإسلامي "مستسلم"، ويروج لتصورات وأفكار تجعل من الخلافات الدولية "معركة في حارة" على طريقة الأفلام المصرية القديمة، ويرسم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان صورة "الفتوة" الذي ينقض على كل خصومه ويشبعهم ضربًا على طريقة "فريد شوقي"!!
يؤسفني أن تنجح دعاية "الإخوان" الزائفة في خداع البعض، ممن يعتقدون بالفعل أن الرئيس التركي يخوض صراعًا مريرًا ضد الغرب دفاعًا عن الإسلام (!) ولست هنا أشكك في نوايا الرجل ولا أهدافه، ولكني أثق تمام الثقة أنه لا يتحرك من منظور ديني بل مصالحي بحت، فهو من قايض أوروبا على منع اللاجئين السوريين ووقع اتفاقًا في مارس العام الماضي، يقضي بإبعاد اللاجئين الجدد إلى تركيا ومنع عبور اللاجئين للاتحاد الأوروبي مقابل الحصول على ثلاثة مليارات يورو، ودراسة إلغاء تأشيرات دخول الأتراك لأوروبا والانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو أيضًا من تراجع عن موقفه المعارض لبقاء الرئيس بشار الأسد حينما استشعر أن إدارة الرئيس ترامب لا تضع إطاحة الأسد في صدارة حساباتها، وهو من بات يضع التصدي لطموحات الأكراد، وليس انهاء الأزمة وتحقيق الاستقرار، في مقدمة حسابات تركيا الاستراتيجية في الأزمة السورية.
لا ألوم الرئيس أردوغان في بحثه عن مصالح بلاده الاستراتيجية، فهذه هي أبجديات اللعبة السياسية، ومن يقول بغير ذلك واهم كبير، فعندما تتحدث السياسة تصمت الأخلاق، ولكني استغرب موقف المتاجرين بالدين، ممن يلصقون بالرجل صفات البطولة و"السلطنة" ويدغدغون مشاعر العامة بأساطير التاريخ القديم، ويستدعون صورة ربما يحتفظ بها الكثيرون في اللاشعور حول سلاطين عظام للدولة الإسلامية قديمًا، لا لشىء سوى نكاية في دولهم!!
صبية الإعلام الإخواني، ومناصريهم في دول عربية، يحولون صراعات سياسية إلى "خناقات عبثية" في "حارة"، ويستخدمون الفاظًا وتعبيرات غريبة عن عالم السياسة في الحديث عن تصريحات عنترية ربما لا تعود سوى بالضرر على أصحابها، فيعتبرون فلانًا "دكرًا" (بالدال دلالة على الرجولة في اللهجة العامية الدارجة) وعلى النقيض يرون في تصريحات ساسة هولندا وألمانيا العقلانية تراجعًا وانهزامية أمام طوفان "الرجولة" الذي يشع من أنقرة!!
الخلافات السياسية يديرها منطق المصالح، ويتحكم فيها من يحتفظ بأعصاب هادئة لا بسخونة وانفعالات شعبوية تخاطب الشارع، وما يفعله الرئيس أردوغان قد أعاد أجواء العلاقات بين تركيا ودول أوروبا سنوات طويلة إلى الوراء، وربما لا يفلح في السنوات القلائل التي سيقضيها في السلطة في رأب وترميم الفجوة النفسية التي صنعها بمواقفه ولسانه معًا.
مواقف أردوغان في الأزمة مع هولندا وألمانيا تنهي تماما نظرية أوغلو بشأن تصفير المشاكل مع العالم، بل تعمل عكسها تمامًا وتفتعل المشاكل مع أقرب شركاء حلف الأطلسي، ويبدو أن الرئيس أردوغان في مرحلة ما بعد الانقلاب غير ما قبله، فقد وجد في هذا الانقلاب ضالته للتخلص من الإرث الكمالي، لاسيما مايتعلق بحلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فهو يريد أن يقطع دابر هذا الحلم تمامًا ويقضي عليه نهائيًا، وأوروبا ترى ذلك جيدًا ولكنها تتحسب لاندفاعة تركية قد تخرج أنقرة بموجبها من حلف الأطلسي، وهي حائط الصد الشرقي لأوروبا، التي لا تزال تشعر بقلق حيال نوايا روسيا حيالها!!
هذا الاندفاع السياسي في إدارة الأزمات ينذر بالخطر ويغذي مناخ الاضطراب في العالم، فمن الصعب القطع بأن ملايين الأتراك في دول أوروبا غائبون تمامًا عن التأثر سلبًا بأجواء هذه الأزمة الساخنة، وفي المقابل كيف يمكن ضمان عدم توظيف اليمين المتطرف في أوروبا لهذه الخلافات والتهديدات المتبادلة في تحقيق أهدافه الخبيثة والنفخ في موجة "الإسلاموفوبيا"، هي أمور قد تكون بعيدة عن صانعي الأزمة، ولكنها ليست بعيدة عن الشعوب ويجب التنبه جيدًا لعواقبها!!