اعتدنا قبيل كل قمة عربية أن يتذكر الجميع كيان اسمه "جامعة الدول العربية" وينهالون عليها تشريحاً وتحليلاً، ويتكرر الموقف ذاته وبالكلمات والتقييمات ذاتها، ولكن لا حراك يحدث ولا حياة لمن تنادي، ما يدفع البعض للاستنتاج بأن الجامعة العربية التي اجتمع القادة العرب في مارس عام 1945 لتوقيع الميثاق التأسيسي كرمز للأمل والوحدة والتعاون باتت مصدر للتعاسة والتشتت ونشر الإحباط الجماعي!
من يتابع بعض مواقع وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام، يجد الكثيرون قد انشغلوا بتشريح جسد الجامعة العربية قبل قمة عمان، فالبعض يقول إن القمم العربية المتكررة هي جنازات رمزية تذكرنا بأن هناك يوما ما فكرة اسمها "القومية العربية"، ووجد البعض الآخر أن الجامعة تحقق هدف مهم هو إيجاد فرصة لتكريم بعض الدبلوماسيين العرب، فيما رآها فريق ثالث ضحية للعرب، الذين أسسوا كيان ورقي بلا روح ولا فاعلية ولا صلاحيات!
الخلاصة في جميع الأحوال ليست في مصلحة الجامعة العربية، ولكن الحقيقة تقتضي القول بأن الجامعة ككيان مؤسسي لا ذنب لها فيما يحدث من حولنا إقليمياً، ورغم ضعفها وحالتها المتراجعة مؤسسياً وسياسياً، فإنها تبقى كيان جامع للعرب، ومن الصعب التضحية بأقدم منظمة دولية قامت بعد الحرب العالمية الثانية، أو إطلاق رصاصة الرحمة عليها نهائياً.
الحقيقة تقتضي القول أيضاً أن الجامعة بحاجة إلى إصلاح هيكلي جذري ضروري وعاجل، فلم يعد بالإمكان استمرارها على هذا المستوى البائس من العمل، كما أن فشلها في ملفات عدة بات مسألة في غاية الحرج، للجامعة وللعرب معاً.
إحدى الإشكاليات التي تعانيها الجامعة تتمثل في أن العالم بشكل عام يمر بمرحلة انحسار للكيانات المؤسسية الجامعة، فالأمم المتحدة نفسها لم تعد كياناً دولياً فاعلاً، وقس على ذلك الكثير، وهناك موجة من الجزر بعد موجة مد عاتية، حيث تحولت الكثير من الدول إلى الانكفاء على الذات أو هي في الطريق إليه بالفعل.
والمؤكد أن أزمات المنطقة باتت أعتى واعقد من قدرة جامعة الدول العربية على حلها، لاسيما أن الجامعة نفسها باتت موضع جدل ونقطة خلاف بين العرب، فمع انعقاد كل قمة خلال سنوات سابقة كان بعض العرب المتفائلون أو المتمسكون بأهداب الأمل يترقبون شيئاً مختلفاً، فإن القمم العربية في السنوات الأخيرة لم تعد محطة انتظار لشيء استثنائي، سوى على مستوى الحضور والخطاب السياسي.
من الصعب الآن توقع اختراق جوهري للقضايا العربية في ظل تآكل النظام العربي الرسمي بفعل غياب أعمدة وركائز أساسية مثل دمشق وانحسار دور آخرين مثل بغداد، وأزمة عميقة صامتة تعانيها علاقات الرياض بالقاهرة! وربما يدفع الجميع الآن فاتورة تهميش طويل لدور المغرب العربي في بنية النظام الجماعي العربي، فالرباط والجزائر ركيزتان مهمتان للأمن القومي العربي، ولكن ما تم خلال عقود قد همش دور البلدين المحوري في صون أمن العرب ودولهم!
اعتقد أنه آن الأوان كي نعترف جميعاً بأن للمملكة المغربية والجمهورية الجزائرية دورهما الحيوي في توجيه بوصلة النظام الإقليمي الجماعي العربي، ولدول أخرى أيضاً دور مؤثر في ذلك بحكم مستجدات الأوضاع وتطورات الأمور وموازين القوى الشاملة السائدة حالياً، فدول مجلس التعاون باتت قائداً اقليمياً فعلياً في محيطها ومن الضروري أن تتقدم الآن لقيادة الجامعة العربية وانتشالها من الغرق، وهذه الدول الست تمتلك من التجارب التنموية الناجحة ومن القدرات التفاوضية والسياسية وحتى العسكرية والأمنية ما بات يؤهلها للجلوس على مقعد القيادة العربية بجانب القوى التقليدية مثل مصر والأردن ودول المغرب العربي.
هناك حالة تخلف عربية غير مسبوقة تاريخياً على المستويات التنموية والتعليمية والاقتصادية وغير ذلك، وهناك عشرات الملايين من الأطفال والشباب العرب باتوا مشردين، إما لاجئين أو نازحين، بعد تدمير آلاف المدارس في سوريا والعراق وليبيا واليمن، الذي تؤكد الإحصاءات أن الحوثيين تسببوا في تشريد نحو 2.5 مليون طفل فيه وحرمانهم من التعليم بالقوة بعد تدمير نحو 1700 مدرسة! وتخيلوا جميعاً هذا الرقم المفزع: تدمير 1700 مدرسة في اليمن بيد ميلشيات الحوثي وصالح! ثم ننتظر بعد ذلك تجفيف منابع الإرهاب ومحاصرة هذه الظاهرة البشعة؟
نؤمن في دولة الامارات بالمستقبل، ونتمسك بما يوفره من فرص، ونمتلك شحنات إيجابية تساعدنا في النظر بإيجابية للأمور من حولنا، لذا فأنا شخصياً أرى أن الوقت لم يمر كاملاً في عالمنا العربي، وأن الفرصة لا تزال قائمة للخروج من مستنقع الإحباط والفشل، ومشاكل معظم دولنا ومناطقنا العربية معروفة وقتلت بحثاً ودراسة، وهذا بحد ذاته خبر جيد.
يتبقى أن نفتح صفحة جديدة ونعمل بجد من أجل انتشال مستقبل الملايين من أطفالنا وشبابنا، وللجامعة العربية في ذلك دور حيوي، شريطة أن تبدأ بإصلاح نفسها، وألا تنتظر ضياع مزيد من الوقت، وأن تتخلى عن أساليبها التقليدية في العمل بشكل روتيني تسبب لعقود وسنوات في انحسار دور الجامعة ذاتها.
التفكير خارج الصندوق والعمل بشكل غير تقليدي هو ما يحتاجه العرب وجامعتهم، ويجب أن نعترف أن الجامعة غائبة شعبياً، وربما باتت أحد مصادر الغضب والاستياء من جانب الشعوب العربية، ولكن لا مجال للبكاء على لبن مسكوب، ولا وقت للندب على محطات الإخفاق والفشل، وعلينا أن نبدأ ونحاول استئناف حضارتنا كما قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الامارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي.
يبدأ الإصلاح، من وجهة نظري، بدفع دماء جديدة في شرايين هذا الكيان العتيق المسمى بالجامعة العربية، فالشباب العربي يمكن أن يحمل الأمل في مستقبل أفضل، والأجيال العربية الجديدة يمكن أن تبعث الحياة في هذا الجسد المتهالك، ولكن كيف نبدأ وأي خارطة طريق نسلك، هذه هي المعضلة، التي يمكن أن تكون محطة خلافات وتشرذم عربي جديدة!