لا اعتقد أن معظم المواطنين العرب يحلمون، عند التردد على المصالح الحكومية، بأكثر من انهاء معاملاتهم في أقل وقت ممكن، أما الحصول على معاملة طيبة ولائقة من الموظف المختص، فهذه ربما تدرج بجانب مستحيلات العرب الثلاث المعروفة (الغول والعنقاء والخل الوفي).
تذكرت هذا الأمر عندما كنت ابحث في كيفية تحقق معايير السعادة في دولة الامارات، لأنني، شخصياً، كنت أرى أن هناك صعوبة في "اكتشاف"خطوات جديدة يمكن أن تحقق السعادة في مجال العمل الحكومي، طالما أن الإجراءات تتم بسلاسة وفي أوقات قياسية، ناهيك عن بعض أمور الترف الأخرى مثل توافر مقاعد انتظار مريحة وربما توافر كماليات أخرى مثل المياه وأحياناً القهوة العربية وغير ذلك!!
ومثلما تتفنن بعض الحكومات في ارهاق شعوبها بالإجراءات المعقدة، وجدت أن حكومتنا ترهقنا في اللهاث وراء إبداعها في تقديم الخدمات للمواطنين والمقيمين على حد سواء، فقد قرأت، مصادفة، أن وزارة الثقافة وتنمية المعرفة قد افتتحت في الأول من مايو الجاري "كافيه السعادة"في ديوان عام الوزارة، والهدف هو "تحويل مكان العمل إلى بيئة جاذبة تسمح لجميع بإطلاق طاقاتهم وجهودهم من أجل إنجاز ينعكس على المجتمع بصورة عامة"، أي الهدف هو إسعاد الموظف بشكل مبتكر، وعلينا أن نتصور بعد ذلك كيف يمكن أن يتعامل معنا هذا الموظف السعيد!!
"كافيه السعادة"هو متنفس الموظف خلال الدوام الرسمي، ويضم جلسات متنوعة للقراءة والاستماع والألعاب الالكترونية، الى جانب مساحات خضراء ونافورة صغيرة!! وقد أدهشني وأنا اواصل قراءة الخبر أن هناك ما يطلق عليه فريق إسعاد المتعاملين وفريق آخر للابتكار بل وهناك أيضاً رئيس تنفيذي للسعادة والايجابية، وهناك وقت مخصص لأنشطة السعادة، ونموذج قياسي يجب الالتزام به لضمان تحقيق معايير السعادة والإيجابية!
الحقيقة أن هناك تنافس "شرس"بين الوزارات والهيئات الحكومية في دولة الامارات للفوز بقلوب المتعاملين بعد أن أطلقت الحكومة البرنامج الوطني للسعادة والايجابية، الذي تضمن مجموعة من المبادرات منها تضمين السعادة في سياسات وبرامج وخدمات كافة الجهات الحكومية وبيئة العمل فيها، أي ضرورة أن تكون السعادة أحد معايير العمل عند تقديم الخدمات الحكومية، والمقصود سعادة الموظف والمتعاملين على حد سواء، فالموظف السعيد يمكن أن يرسم الابتسامة على وجه الجمهور من دون عناء.
السعادة في الإمارات ليست شعاراً يرفع أو ديكوراً لتجميل الأداء الحكومي، بل هي "أسلوب حياة"وربطها بالايجابية في التفكير والسلوكيات مسألة في غاية الذكاء، فالإنسان الإيجابي لابد وأن يسعى لإسعاد نفسه ومن حوله، علما بأن الأمر ليس متروكاً للأهواء بل هناك معايير ومقاييس يتم تطويرها أولاً بأول لقياس مؤشرات تحقق السعادة في الدولة، وهناك "حوكمة"للأداء لضمان الجودة والاستمرارية!!
الاهتمام بالسعادة في الإمارات إذن ليس مسألة عابرة بل هو أحد جوانب التنافسية التي تخوضها الدولة عالمياً، ومصدر من مصادر قوتها الناعمة، فهي الآن تحتل المرتبة الأولى عربيا في مؤشر السعادة العالمي 2016، والمرتبة 28 على مستوى العالم كأسعد الشعوب، ولكنها لا تزال تبحث عن الارتقاء إلى قائمة أفضل 5 دول على مستوى العالم.
قد يقول البعض إن الأمر يبدو يسيراً لأننا نتحدث عن قطاع الثقافة الذي يمكن فيه تطبيق مثل هذه الأمور، ولكن دعني احدثك بأن شرطة أبوظبي قد استحدثت "مركز شرطة السعادة المتنقل"، أي في قلب ما نسميه نحن الأكاديميين والباحثين بالقوة الخشنة، يمكن البحث عن السعادة وتحقيقها!!
تقول شرطة أبوظبي أنها معنية بترجمة استراتيجيات الدولة على أرض الواقع، وذلك من خلال توفير كافة الإمكانات والموارد البشرية المؤهلة لتقديم الخدمات الأمنية والشرطية المتنوعة على أيدي كوادر العمل من ذوي الخبرة والكفاءة في التعامل الأمثل مع الجمهور بكافة شرائحه. ويؤكد مسؤولوها أن مسيرة تطوير الخدمات والمبادرات الخاصة بتعزيز بيئة السعادة والشعور بالإيجابية لدى أفراد المجتمع أصبحت برنامجا وخطة عمل لدى شرطة أبوظبي.
اعرف أن البعض منا يتساءل كيف يمكن أن تحقق الشرطة السعادة، وهي التي نعرف جميعها ملامح صورتها الذهنية وأخبارها السلبية، بل يخشى البعض في دولنا العربية دخول مقراتها وربما المرور بجانبها !! ولكن يبدو أن المسألة أبسط مما نعتقد جميعاً لو توافرت الإرادة وخلصت النوايا، فمركز شرطة السعادة المتنقل يهدف إلى تقديم مختلف الخدمات الشرطية والأمنية للجمهور من أجل توفير الوقت والجهد وضمان أقصى سبل السلامة للجمهور من خلال التقليل من استخدام وسائل النقل في التحرك لقضاء الخدمات من المراكز الشرطي، أي أن الشرطة قررت الذهب إلى الجمهور حيثما كانوا لقضاء طلباتهم وتأدية الخدمات لهم!!.
اللافت أن مركز شرطة السعادة المتنقل يقدم كافة الخدمات الشرطية والأمنية، ولا يقتصر على عمل شكلي، بل يقدم العديد من الخدمات منها خدمة تجديد واستصدار ملكيات السيارات ورخص القيادة ودفع المخالفات المرورية وكافة الخدمات الذكية وفتح البلاغات الجنائية بأنواعها ويؤدي مهام وأعمال الشرطة المجتمعية والتعامل مع الجرائم وأعمال التحقيق المروري إضافة إلى مهام إدارة الأزمات، وبحيث يمكن أن يؤدي تلك المهام على مدار 24 ساعة أسبوعيا وفي أماكن متفرقة!!
هي مؤشرات إيجابية، وترسم الأمل في مستقبل أفضل لنا جميعاً كعرب، فهي تعني أنه يمكن أن نصنع شيئاً جديراً بالاحترام، وأن نسبق العالم في مجال احترام الانسان وليس فقط منحه حقوقه المنصوص عليها دولياً، وأن نصدر للعالم نماذج إيجابية بدلاً من تصدير مشاهد الذبح والقتل والعنف وسفك الدماء!
إنه فن صناعة الأمل الذي برعت فيه الامارات وتفننت، فهي صانعة الأمل وبقعة النور وسط ظلام التطرف والعنف الذي يخيم على منطقتنا العربية، فمتى يمكن أن تنتشر ثقافة السعادة والايجابية لتبدد أجواء اليأس والإحباط التي تدمر طاقات معظم الشباب العربي؟!