قد يكون أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم "داعش"قد قتل كما تردد، وقد لا يكون كذلك، ولكن المؤكد أن دولته المزعومة، التي أعلنها قبل نحو 3 سنوات في الموصل قد سقطت وانتهت "الخرافة"رسمياً عقب الاعلان عن تحقيق النصر على التنظيم في هذه المدينة العراقية العريقة.
احتفال العراق بتحقيق النصر في الموصل يعني نهاية "دولة البغدادي"ولكنه لا يعني مطلقاَ نهاية الارهاب، فالخطر الارهابي لا يزال قائماً سواء تمثل في "داعش"التي لا تزال تتواجد في مناطق جغرافية عدة في العراق وسوريا، أو تمثل في بقية تنظيمات الارهاب المنتشرة في العديد من الدول والمناطق.
لا يزال العالم بعيداً إلى حد كبير عن استئصال الظاهرة الارهابية المعقدة، فالنصر في مواجهة الارهابيين لا يعني بالضرورة نصراً ضد الارهاب نفسه، فالأول يتركز في نجاح الجهود الأمنية والعسكرية، بينما هزيمة الارهاب كظاهرة تتطلب عملاً مكثفاً ودقيقاً ومستمراً لسنوات وربما عقود مقبلة.
هل يعني ذلك أن الارهاب لا يزال على مستوى الخطورة خلال الأعوام الماضية؟ الاجابة هنا بلا قاطعة لأسباب واعتبارات مهمة، في مقدمتها العمل الدولي المتواصل على صعيد مكافحة تمويل الارهاب وفضح الدول الممولة لهذه التنظيمات، والتي توفر لها غطاء عمل مشين، وفي هذا الإطار تعد دولة قطر أحد أبرز ممولي الارهاب، وقد لعبت دول المقاطعة دوراً حيوياً في لجم الاندفاع القطري نحو العمل مع تنظيمات الارهاب، حيث فضحت العلاقة بين القيادة القطرية وتنظيمات الارهاب.
قناعتي الذاتية أن تجفيف التمويل ومنابعه عن الارهابيين يمكن أن يسهم بقوة كبيرة في انهاء هذه الظاهرة أو الحد منها وتحجيم خطرها على أقل التقديرات، لأن الأموال لطالما لعبت الدور الأبرز في انتشار الظاهرة الارهابية، فهناك "بزنس"ضخم ومتشعب يتلخص في تمويل الارهاب والارهابيين.
مشكلة العالم خلال المديين القريب والمتوسط لا تتمثل في محاربة الارهابيين فقط، فهذه مهمة يمكن أن يتحقق لها النجاح بمزيد من التعاون والتضامن عسكرياً وأمنياً، ولكن ظاهرة الارهاب طيلة العقود والسنوات الأخيرة قد انتجت لنا دروساً اهمها أنها تراوح بين مد وجزر، وأنها تعمل وفق موجات لا تنتهي بنهاية زعماء الارهاب، فموت ابن لادن قد أسهم في بزوغ ظاهرة البغدادي، وانتج جيلاً ارهابياً جديداً أشد شراسة وفتكاً من "القاعدة"، وهذا لا يعني بالضرورة أننا بصدد جيل قادم من الارهابيين والتنظيمات الارهابية أشد فتكاً، ولكن علينا الحذر بالتجارب الارهابية، إن صح التعبير، باتت تطور نفسها وتتبادل الخبرات عبر مواقع الكترونية، ولم يعد شرطاً أن يخوض الارهابيين في منطقة ما تجربة معينة كي يكتسبوا مزيداً من الخبرات في ارتكاب الجرائم، فقد أضاف إليهم "الانترنت"ساحة تعلم واسعة لتناقل الخبرات وتبادلها، ومن ثم نجد هذا التشابه الكبير في الممارسات الارهابية بين منطقة وأخرى، حتى لا يكاد الخبراء يميزون أسلوب هذا التنظيم عن ذاك سوى من خلال إعلانات التنظيمات نفسها عن تنفيذ العمليات الارهابية.
على الدول والمنظمات الدولية أن تسارع بالانتقال من مربع الدفاع إلى مربع الهجوم في مواجهة الظاهرة الارهابية، وأن يبدأ العمل على الفوز في فرض حظر دولي على تمويل الأنشطة الارهابية، وتسليحها وتدريب عناصرها، مهما كانت الدوافع والأسباب، على أن يبدأ ذلك كله بصياغة تعريف دقيق ومحدد وجامع مانع للارهاب، وإصدار قائمة دولية لتنظيماته وقادته ومحاصرتهم دولياً.
لا يجب أن يكون الارهاب موضوعاً للمساومة والابتزاز وتحقيق المصالح في العلاقات الدولية، فالأثمان المدفوعة والتكلفة الاستراتيجية لذلك باهظة وتتحملها شعوب العالم أجمع، من أمنها واستقرارها، كما يجب أن يدرك الجميع أن ترميم التآكل الحاصل في سيادة الدول هو أحد المداخل الضرورية لمحاربة الارهاب، فيجب حظر التعاون مع المنظمات والميلشيات والأحزاب التي تمتلك أذرعاً مسلحة، كما يجب التصدي التام لأي أنظمة تقمع شعوبها بالسلاح، وذلك لنزع الذرئع عن تنظيمات الارهاب وميلشياته، فتحقيق العدالة الدولية مطلب حتمي لتحقيق الأمن والاستقرار الدولي.
على العالم أن يتعلم جيداً من دروس السنوات الماضية، وأن يدرك أن الفوضى لا يمكن أن تكون "خلاقة"، وأنها لا تنتح سوى مزيد من الفوضى، وأن دائرة الفوضى الجهنمية لا يمكن أبداً أن تطون مدخلاً طبيعياً لتحقيق الاستقرار، وأن أمن العالم بات مترابطاً بدرجة لا تسمح بالتجريب وإطلاق العنان للأفكار العبثية التي تتسبب في تدمير الدول والشعوب.
سقوط "خرافة"البغدادي لا تعني نهاية الارهاب، وعلينا ألا نتوقف عن محاربة هذه الظاهرة البشعة، ولا يجب أن يغفل العالم حقيقة تطور الجريمة الارهابية وتنوعها بين العمل المنظم والفردي، وأن فكرة "الارهاب"لا تزال موجودة وتنمو وأن تجفيف منابعها ومصادر تمويلها هو السبيل الحيوي لمحاصرتها ومنع الاوكسجين عنها تماماً.