في علم السياسة والعلاقات الدولية، نادرًا ما تلتقي صفتان، القيادة والأخلاق، فهي قضية إشكالية بامتياز، وربما تكون ضمن القضايا الأكثر جدلية من الناحية العلمية بين الباحثين والمتخصصين، وهناك في هذا المجال دراسات كثيرة منذ بروز المنهج "الميكافيللي" في الممارسة السياسية منذ قرون عدة مضت.
وعلى خلاف هذه التباينات، اختص الله عزوجل دولة الإمارات بقادة تاريخيين نجحوا في إعلاء المبادئ والأسس الأخلاقية سواء في علاقتهم بشعبهم أو على صعيد السياسة الخارجية للدولة منذ تأسيسها، ورسخوا منظومة قيم أخلاقية راسخة باتت إحدى سمات العلاقة بين قيادتنا وشعبنا.
انطلقت الإمارات منذ الثاني من ديسمبر عام 1971 على قاعدة أخلاقية وإنسانية متينة، وكان قادتنا المؤسسون روادًا تاريخيين في قيادة الإنسانية للخير والعطاء وتقديم الوجه الحضاري للإنسانية، التي كانت غارقة وقتذاك في الصراعات الساخنة والحروب الباردة، فسبقت الإمارات بذلك التيارات الفكرية والسياسية التي طالبت بعد ذلك بعقود وسنوات بما يعرف بأنسنة السياسة، أي الاهتمام بالبعد الإنساني في العلاقات الدولية، وما يرتبط بذلك من معالجات للفقر والأمراض والجوع وتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية وغير ذلك، وقد كانت الإمارات، ولا تزال، رائدة عالمية في هذا التوجه، حتى أنها صارت في السنوات الأخيرة عاصمة للعمل الإنساني في العالم.
وعندما بدأت في تأليف كتابي المعنون "فخر العروبة: صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.. القائد والإنسان"، كنت أقصد الربط في السمات الشخصية بين القيادة السياسية والسمات الإنسانية في شخصية سموه العظيمة، حيث وجدت من خلال مراجعتي لمئات المواقف والوثائق، أن من الصعب على الباحث توثيق الموقف وتحليله بالفصل بين "السياسي" و"الأخلاقي" في النمط أو النهج القيادي لسموه، فالأخلاق لها جذور ضاربة في عمق الشخصية، وهي جوهر عمله السياسي، الذي لا يتحرك في فضاء خال من المبادئ والقيم، بل يستند إلى موروث قيمي هائل تشبع به سموه منذ سنوات طفولته الأولى في مدرسة الخير والعطاء، التي ترعرع فيها، مدرسة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وهي مدرسة القيم والأصالة التي تعبر عن قيم هذه الأرض الطيبة.
لفترة طويلة استغل تجار الدين الجانب الأخلاقي في تغليف أطماعهم ومشروعاتهم التآمرية ضد الشعوب العربية والإسلامية، وغاب عن الكثيرين أن البعد الأخلاقي في السياسة ليس شعارًا يرفع للمتاجرة والمزايدات بل سلوك عملي وتطبيق على أرض الواقع، وهو ما أجده تمامًا في كل موقف يظهر فيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، فمواقف سموه محملة دائما بالدروس والعبر في فنون القيادة والأخلاق، ومنها ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعي خلال أيام عيد الأضحى المبارك، حيث تجلت معاني التواضع الإنساني في أبهى صورها، حين ظهر سموه بمقطع فيديو، وهو يرافق معرف إحدى القبائل حتى سيارته بعد أن قدم التهنئة لسموه بحلول عيد الأضحى المبارك، متخليًا عن كل بروتوكول رسمي ليؤكد لفتة إنسانية عفوية بليغة الأساس الذي يرتكز عليه الحكم الرشيد في دولة الإمارات.
العلاقة الفريدة بين الحاكم والشعب في دولة الإمارات تفسر ما حدث في هذه اللقطة، التي تتكرر كثيرًا منذ بدايات سموه في عالم السياسة، فمخزون الإنسانية لدى سموه يرتقي دائمًا فوق حسابات البروتوكول الرسمي، ويملي عليه التصرف وفق ما نشأ عليه من أخلاق قويمة تضع احترام الكبير والتواضع والتراحم فوق أي حسابات واعتبارات يمكن أن تحكم تصرفات القائد السياسي، فمن يعتبر أبناء شعبه "عظم رقبة" يصعب عليه أن يتعامل معهم وفق علاقة الحاكم والمحكوم التقليدية، فسموه لا يرى فارقًا بين أبناء الإمارات كافة، لذا نراه يدفع بأبنائه إلى مقدمة صفوف القوات المدافعة عن قيم الإمارات ومبادئها في ساحات الشرف والفخر والوطني، وليس لنا من برهان آخر يترجم هذه العلاقة الفريدة بين القيادة والشعب على هذه الأرض الطيبة.
صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان هو من تفتحت عيناه على المعلم والقائد المؤسس يقول "إن الآباء هم الرعيل الأول الذي لولا جلدهم على خطوب الزمان وقسوة العيش لما كتب لجيلنا الوجود على هذه الأرض التي ننعم اليوم بخيراتها"، لذا فإن تصرف اليوم هو ترجم لما تعلمه سموه بالأمس، ويحرص على غرسه في الأجيال الجديدة اليوم، فهي سلسلة من القيم يغرسها كل جيل في الآخر.
عندما يستحضر القادة والزعماء الأخلاق في سياساتهم، فنحن أمام نمط فريد من الحكم الرشيد، وهذا الأمر ينعكس بوضوح في شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، فسموه يهبط بالسياسة من عليائها، ويضفي عليها مسحة إنسانية وأخلاقية متحضرة، تعكس عمق البعد الأخلاقي والإنساني في النسق القيمي لسموه.
لقد وهب الله عزوجل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان كاريزما القائد، كما وهبه التواضع الذي قال فيه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي "رعاه الله"، في قصيدته المعروفة "شيخ الرجال" (التواضع فيك من أزكي الخصال)، وهنا لا أجد ختامًا لمقالي أفضل مما ورد في هذه القصية الرائعة "عشت بوخالد ومجدك في اكتمال".