لم تزل تجربتنا الاتحادية المباركة بحاجة إلى الكثير من الفهم واستخلاص الدروس، والحقيقة أن ما كتب عن هذه التجربة التاريخية من جانب الباحثين الغربيين الذين عاصروا مرحلة التأسيس يستهويني بشكل خاص ربما لحرص الباحثين الغربيين على الاعتماد على المعلومات وتوثيقها أكثر من أي شيء آخر.
ولكن هذا الرأي لا يعني بطبيعة الحال انتفاء وجود أدبيات عربية جديرة بالقراءة والفهم حول تجربة قيام اتحاد دولة الامارات العربية المتحدة وشخصية القائد المؤسس المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد، طيب الله ثراه، فهناك الكثير من الكتب والدراسات المنشورة التي تغوص بتحليل عميق في الشخصية والظروف والمعطيات التي أحاطت بتلك التجربة الوحدوية الاستثنائية في تاريخنا العربي المعاصر.
ومن هذه الدراسات هناك كتاب بعنوان “أصول الريادة الحضارية: دراسة في فكر الشيخ زايد” للمؤلف د. نبيل راغب، حيث يتناول فيه الكاتب سمات القيادة لدى القائد المؤسس ومنها أصول الزعامة التاريخية، حيث يعتبر ان الزعيم الذي يصنع التاريخ يبدأ حياته السياسية مبكراً، فتبدأ مراحل صباه بأحلام لوطنه وشعبه، فيبدأ بالقراءة والفهم واستيعاب ما يدور حوله والاستفادة من تجارب الماضي، ويتعامل معها برؤية نقدية نابعة من الخصوصيات الثقافية والدينية التي تربى عليها ، بمعنى أن مثل هذا النمط من الزعامات، وحتى في بداياته المبكرة، لا يتعامل مع التجارب السياسية للآخرين باعتبارها من المقدسات، بل هي بنظره اجتهادات تخضع للقبول والرفض والنقاش والجدال، وربما يخضعها لصياغات جديدة، وهو في ذلك يختلف عن غيره من الناس، ويختلف أيضاً عن الساسة الذين تصنعه الظروف او الطموح الشخصي والسياسي، ولا يمتلكون رؤية استراتيجية، بل يعتمدون على القيادة التكتيكية التي تمكنهم من اغتنام الفرص لمصلحتهم.
من يصنعون حضارات الأمم هم من نوعية هذه الزعامات التي تصنع التاريخ، ويمتلكون مشروعاً حضارياً قائم على التنمية والبناء والاعمار، وليس الحروب والصراعات والمعارك، لذا فقد اتخذت قيادة الشيخ زايد، طيب الله ثراه، من مبدأ بسيط للغاية هو “الاتحاد قوة” ركيزة لنقطة تحول هائلة في تاريخ دولة الامارات ومنطقة الخليج العربي، وقاد فور تأسيس دولة الاتحاد نهضة حضارية قائمة على أسس مدروسة في التعليم والصحة والتنمية وامتلاك قوة عسكرية تحمي وتصون الأمن والاستقرار.
عندما قال الشيخ زايد” طيب الله ثراه” مقولته “الاتحاد أمنيتي وأسمي الأهداف لشعب الاتحاد” كان يعبر عن فكر قيادة تقرأ التاريخ وتستشرف المستقبل، فربما كان بفطرته البسيطة أول من أدرك أن المستقبل للكيانات الكبيرة، وليس للفسيفساء السياسي من كيانات صغيرة، ومن ثم فإن هذه النظرة الاستشرافية كانت أول غرس في أرضنا لمبدأ الابتكار والتميز واستشراف المستقبل، الذي بات أحد مقومات نهضة الامارات في القرن الحادي والعشرين.
ولاشك أن من أبرز ما يلفت انتباهي فيما كتب عن القائد المؤسس هو سر القبول الهائل لشخصيته ولكل كلمة تصدر منه، ولكل عبارة يقولها، وفي ذلك تفسيرات كثيرة، ولكني انحاز للتفسير القائل بأن السر يكمن في الحب الأصيل الذي ربط بين الشيخ زايد، وشعبه، فلم يكن هناك وسيط إعلامي ولا غيره، بل كانت العلاقة تفاعلية مباشرة، وكان المواطنون يتلمسون مدى حب زايد لهم، وفي ذلك يقول مؤلف هذا الكتاب “لقد كان الشيخ زايد يؤمن بأن الاعلام يمكن أن يكون تعبيراً صادقاً عن الحب المتبادل بين الزعيم وأبناء وطنه، ولكن في غياب الحب فإن الاعلام يتحول إلى طبل أجوف، فالأقوال بدون أفعال عبارة عن أصوات لا معنى لها، ولذلك فإن أفعال الشيخ زايد وانجازاته في جميع المجالات أضعاف كلماته وتصريحاته وبياناته”.
من منا لم تستوقفه هذه اللهفة والحرص على الانصات عندما يستمع إلى صوت الشيخ زايد؟! هذه حقيقة لمسها شعب الامارات جميعاً، فلم يُعرف القائد المؤسس بالخطب والبلاغة بل عُرف بالعمل والانجاز، والأبوة الحقيقية، بمعنى أنه كان يطبق ما يؤمن به ويراه صواباً لمصلحة شعبه، وتجربته السياسية التي كان يحتضنها ويحرص عليها كما يحرص على أغلى ما يمتلك في الحياة، كما سنجد أن كلمات القائد المؤسس هي كلمات بسيطة مركزة، مكثفة، لا محاولة فيها للمبالغة ولا ادعاء البلاغة، ولا اطناب واسترسال، بل هي كلمات من القلب للقلوب، تحرص على الهدف والمعنى أكثر مما تحرص على الصياغة والبيان والحيل اللفظية والالاعيب البلاغية والعبارات الطنانة والشعارات الرنانة.
هذه السمات الاستثنائية في الخطاب السياسي للقائد المؤسس هي ما تجعله، حتى اليوم ـ متفرداً قادراً على خطف آذان من يستمع لخطبه وكلماته، فهي سهلة ممتنعة مليئة بالصدق، تعب رعن رؤية عميقة ولكنها متواضعة والسر الأكبر، برأيي، هو الصراحة السياسية التامة، التي ولدت وغرست في أرض الامارات وباتت سمى ملازمة للقيادة والحكم في دولتنا، قبل أن يتوصل العالم إلى أفكار المكاشفة والمساءلة والمحاسبة كأصول وأساسيات للقيادة السياسية في القرن الحادي والعشرين.
فلو أجري أحد الباحثين المعتبرين تحليلاً مضمون لخطب الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لوجد أن مفهوم “الصراحة” والدعوة إليها وترسيخها في وجدان وضمير الشعب ووعيه الجمعي من أكبر ما ركز عليه القائد المؤسس في رحلة سنوات التأسيس، انطلاقاً من رغبته في غرس الحب، الذي يمثل نتاجاً مباشراً للصراحة، ولذا كان يقول “الصراحة واجبة دائماً بين الأحبة والأصدقاء الين يرغبون في حب بعضهم البعض” ويربط في تناغم بين الصراحة والولاء والانتماء وحب الوطن.
إنها بعض أسرار الاتحاد وعبقرية القيادة لدى المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والأمر لا يزال فيه متسع كبير ومستمر للبحث والدراسة واستخلاص العبر والدروس المستفادة.