لا اعتقد أن هناك من ينتظر مواقف محددة للمتاجرة بها، أكثر وأشد لهفة من لهفة انتظار المزايدون العرب للقمم والاجتماعات العربية المشتركة لإقامة حفلات اللطم السياسي والنواح والعويل والصراخ والندب الإعلامي وترديد شعارات مختلفة لنشر الإحباط واليأس في نفوس عشرات الملايين من الشباب العربي من المحيط إلى الخليج!
ينتظر هؤلاء المزايدون، القمم العربية كانتظار الحبيب المشتاق لحبيبته، ويرون في هذه الاجتماعات فرصة نوعية ثمينة للنيل ممن يعتبرونهم خصوماً وأعداء، وتأتي القمم العربية تلو الأخرى، وتتغير الأحداث وتتكرر المواقف، او لا تتكرر، بينما يبقى هؤلاء المزايدون على حالهم، مستعدون دائماً بشعارات مقولبة جاهزة ونائحين نائحات، مدربين ومدربات، على إلهاب العواطف وتأجيجها وتسخين المشاعر القومية بالبكاء على "أمة قد ماتت" و"دول لم يعد لها وزن" و"قادة غير قادرون على مواجهة أمريكا وربيبها إسرائيل" وغير ذلك من شعارات وجمل متكررة!
كلما انعقدت قمة عربية، تتبارى فضائيات النواح في تحليل البيئة السياسية التي تنعقد خلالها القمة، وكيف أن هذه القمة تأتي في "ظروف بالغة الخطورة" وأنها "تختلف عن غيرها من القمم"، وأنها ...وأنها، وتمهد الجمهور بشكل مدروس لتلقي رسائل المزايدة، وضيوفها من نجوم المزايدة السياسية يدركون مسبقاً حقيقة المعطيات الاستراتيجية وتوازنات القوى، واوراق اللعب الاستراتيجية الحقيقية بين الطرفين، العرب وإسرائيل، المدعومة بشكل غير مسبوق تاريخياُ من إدارة الرئيس دونالد ترامب.
كلما انعقدت قمة عربية يقول البعض أن هذه القمة تواجه تحديات غير مسبوقة، ولكن الواقع أن العرب دائماً وطيلة تاريخنا يواجهون تحديات غير مسبوقة، فمنذ القمة العربية الأولى في انشاص بجمهورية مصر العربية عام 1946، تتوالى على أمتنا الأزمات والتحديات وفي كل مرة نقف ونتابع مستويات التحدي ومدى اختلافها عن سابقيها، وكأن مهمتنا هي مراقبة التحديات ورسم منحنى لصعودها وهبوطها، إن وجد!
الواقع الذي يستغله المزايدون يقول بأن هامش المناورة أمام صانعي القرار العربي المشترك قليل ومحدود ويدور في فلك البيانات والمواقف، بينما يصرخ هؤلاء المزايدون يطالبون بما يصفونه بالقرارات الجريئة، وللأمانة فإن الحديث عن أوراق الضغط التي تمتلكها مؤسسة القمة العربية، باعتبارها الممثل الشرعي الأرفع لمنظومة العمل العربي المشترك، يقودنا إلى رؤية واضحة لا تحتاج إلى مزايدات ومهاترات، وعلى هؤلاء المزايدون أن يقترحوا علينا ما لا نراه من قرارات جريئة وواقعية وقابلة للتطبيق!
وبصراحة أكثر، لا يجب أن نصنف أفكار مثل قطع العلاقات بين الدول العربية التي تمتلك اتفاقات سلام رسمية مع إسرائيل، باعتبارها أفكار جماعية عربية، فهذه خيارات فردية ومن الغبن أن تتحمل دولة أو دولتين تقيمان علاقات رسمية مع إسرائيل عبء الموقف العربي الجماعي!
وبصراحة أكثر وأكثر: هل من المنطق في شيء أن يطالب أحدهم باتخاذ القمة العربية قراراً بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة! أليس ذلك ضرب من الهراء والجنون والعبث السياسي؟ دعونا من موازين القوى والمصالح وغير ذلك ولنحتكم للغة الواقع السائد في العلاقات الدولية ونتساءل: ألم تقرأوا عن الخلافات الهائلة بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، ولم نسمع أن أي من هاتين الدولتين قد فكرت، مجرد تفكير ، في قطع العلاقات مع الولايات المتحدة؟ ثم هل يمكن أن يسفر قطع العلاقات عن موقف أمريكي مغاير أم عن إبراء الساحة الأمريكية من أي التزامات أدبية ومعنوية وتاريخية حيال حلفائها من العرب ومن ثم التوجه نحو تقديم مزيد من الدعم والمساندة لإسرائيل ومنحها الضوء الأخضر لمزيد من العربدة في الأراضي العربية المحتلة!
لا احتاج كثيراً لمناقشة موازين القوى الإقليمية والدولية، عسكرياً واقتصادياً، ولا احتاج كذلك لاستعراض حجم المؤامرات والخطط التوسعية التي تكاد تحاصر العرب من القوى الإقليمية التي استدعت كل مخططاتها التاريخية وترى في اللحظة العربية الراهنة، مناسبة تاريخية للنيل من العرب والتوسع على حسابهم وخصماً من نفوذهم وأراضيهم، ولكن هؤلاء المزايدون العرب يتناسون خطر طموحات إيران وتركيا وأطماعهما في الأراضي العربية، ولا يرون سوى الخطر الإسرائيلي!
صحيح أن إسرائيل دولة احتلال وستبقى كذلك حتى التوصل إلى تسوية تضمن الحقوق المشروعة للعرب في الأراضي الفلسطينية والجولان المحتل، ولكن هذا لا ينفي بأي حال أن إيران دولة توسعية وتحتل أرضاً عربية خليجية إماراتية هي الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى)، وتتباهى باحتلال أربع عواصم عربية بالفعل والنفوذ السياسي والاستراتيجي والتواجد الميلشياوي، ولا ينفي أن تركيا تسعى بإصرار لقضم جزء آخر من أراضي الدولة السورية، وتجد في الظروف الراهنة فرصة مواتية لتحقيق ذلك!
يجب ان نكون واقعيين ونعترف بأن العيب ليس في الدول ولا القادة العرب، فهناك خلل قائم في توازنات القوى الدولية، وإلا لما جرؤ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على محاصرة الصين تجارياً، وتوبيخ حفائه الأطلسيين في أوروبا ليل نهار، أو حتى الضغط بقوة وإصرار من أجل بناء جدار على حساب جيرانه المكسيكيين، وحالات أخرى تمتلئ بها دفاتر الأحوال منذ تولي ترامب منصب الرئاسة!
واعتقدن من دون عواطف، أن مجرد انعقاد القمة العربية في الظروف الراهنة، كان حلماً لمن عاش ذروة الفوضى والاضطرابات في ما يسمى بـ " الربيع العربي" عام 2011، حيث اعتقد الجميع وقتذاك أن العالم العربي انزلق إلى حالة مزمنة من الفوضى ولن يقدر على الوقوف مجدداً!
أن تنهض مجموعة الدول التي تقود النظام الجماعي العربي حالياً بمهمة إحياء مؤسسة القمة واستنهاض الدور العربي، ولو عبر بيانات ومواقف الحد الأدنى، فهذا يعد انجاز بحد ذاته، وبخلاف ذلك يصبح الحديث نزع من المزايدات والاماني الخاوية.