وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العرب جميعاً، ولاسيما حلفاء الولايات المتحدة، في مأزق بالغ الحرج والحساسية بإعلانه الجولان المحتل جزءاً من أراضي إسرائيل!
الواقع يقول إن العرب لم يبذلوا ما يكفي من الجهود للتصدي لهذه الخطوة الامريكية مسبقاً، فالنظام السوري نفسه غارق في أزمته الداخلية ولم يفطن لخطورة استدعاء إيران لمعاونته في الحرب ضد تنظيمات الإرهاب، والإشكالية أيضاً أن العرب يتابعون التحركات
الإسرائيلية ـ الأمريكية بشأن الجولان منذ أشهر مضت، ولكن لا يأتي ذكر هذا الموضوع في أي نقاش عربي عربي، ولا عربي أمريكي، فإعلان الرئيس ترامب عن نيته قد سبقته تلميحات مباشرة وغير مباشرة، فإعلان ترامب سبقه تصريحات السيناتور ليندسي جراهام خلال زيارته لإسرائيل مؤخراً، والتي قال فيها »من الناحية الاستراتيجية، أنا أقف علي إحدي أهم مناطق دولة »إسرائيل»، ولمن سنعيدها.. هل سنعيدها للأسد؟ لا أعتقد ذلك. سيكون ذلك بمثابة منحها لإيران»، وذلك اثناء زيارته للجولان المحتل، وأضاف بينما كان يقف إلي جانبه السفير الأمريكي ديفيد فريدمان »هل سنعطيها لروسيا؟ لا أعتقد ذلك. ولذلك فإن فكرة إعطاء هذه المنطقة لأية جهة أخري مرفوضة»، كما صوتت الولايات المتحدة في نوفمبر الماضي للمرة الأولي ضد قرار سنوي للأمم المتحدة يدين الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية، أضف إلي ذلك أن السيناتور الأمريكي ليندسي جراهام تحدث أكثر من مرة حول جهوده لإقناع الرئيس ترامب بموضوع الاعتراف بسيادة إسرائيل علي الجولان، وهو من أعضاء الكونجرس المقربين من الرئيس ترامب ولديه تأثير علي قراراته وسياساته. كما ذكر نتنياهو أثناء زيارة جراهام لإسرائيل أنه طلب من السيناتور الأمريكي أن تعترف الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بسيادة إسرائيل علي الجولان السوري. ما يعني أن النوايا الأمريكية كانت واضحة ومبيتة، وأن هناك تغييرا وتحولا جذريا في الموقف الأمريكي بشأن الجولان، حتي إن الأمر لا يكاد يمثل مفاجأة للمراقبين والمتخصصين في الشرق الأوسط.
الحقيقة أيضاً أن ترامب قد خاض تجربة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقرار نقل السفارة الأمريكية إليها، حيث جاءت ردود الأفعال والتحركات العربية أقل مما هو متوقع كثيراً، علي عكس ما حذرت منه تقارير الاستخبارات الأمريكية التي كانت تشير إلي عواقب كارثية علي السياسة الخارجية الأمريكية في حال تبني هذا القرار، ما شجع الرئيس ترامب لينتهز الفرصة ليحقق لإسرائيل كل أحلامها في قضم ما تبقي من الأراضي العربية وانتزاع اعتراف أمريكي بالسيادة الإسرائيلية عليها!
والحقيقة أن التوجه الأمريكي كارثي من الناحية الاستراتيجية والقانونية، ويكرس فكرة الاحتلال ويصب في اتجاه تقويض الامن والاستقرار الدولي، وينسف أي جهد دولي لتصفية ممارسات الاحتلال ومظاهره وجيوبه المتبقية في العالم. كما أن عواقب قرار الرئيس ترامب تتجاوز قضية الجولان لتدمر أسس القانون والعلاقات الدولية، فإضفاء الشرعية علي الاحتلال يعني انهاء البقية الباقية من مصداقية الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وإشعال فتيل الصراعات ومنح قبلة الحياة لتنظيمات الإرهاب، لتعيد إطلاق جيل جديد من الإرهابيين والمتطرفين في مرحلة ما بعد »داعش»!
ولمن لا يعرف فإن أدراج الأمم المتحدة تزدحم بقرارات أممية تدين الاحتلال الإسرائيلي للجولان، ومنها ثلاثة قرارات صدرت عام 1980 أولها سياسات إسرائيل بإجراء تغيير في الجولان السوري، وآخر يجدد رفضه الشديد لقرار إسرائيل بضم الجولان إلي الأراضي الإسرائيلية، وقرار ثالث يدين ممارسات إسرائيل بفرض الجنسية الإسرائيلية بصورة قسرية علي المواطنين السوريين في الجولان، وقرار صادر عام 1981 يطالب إسرائيل بإلغاء فرض قوانينها علي الجولان، وقرار ثان صدر في العام ذاته يدعو إسرائيل لإلغاء ضم مرتفعات الجولان السورية. وأحدثها قرار صدر عام 2018 وتم التصويت عليه بالأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يقر بسيادة سوريا علي الجولان المحتل. كل هذه القرارات تضرب بها أقوي دولة في العالم عرض الحائط ثم نتساءل عن أسباب الفوضي العارمة في النظام العالمي!
والآن وقد حدث ما حدث أو يقترب من الحدوث، حيث يتوقع خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلي إسرائيل أن تصدر وثيقة رسمية أمريكية تعترف بسيادة إسرائيل علي الجولان، يصحب السؤال البديهي ما هي خيارات الدبلوماسية العربية في التعامل مع هذه الكارثة الاستراتيجية الجديدة أو ما يعرف بوعد ترامب؟ الحقيقة أن هامش الحركة السياسي أمام الدبلوماسية العربية يبدو ضئيلا للغاية، فقد نسمع كثيراً عن تصريحات ومواقف تتباين في قوتها وحدتها ومستويات غضبها، ولكن أوراق اللعب السياسية الفاعلة تكاد تكون منعدمة بيد العرب مجتمعين، وهذا الأمر يوفر فرصة ثمينة للمزايدين الإقليميين في تركيا وإيران للظهور بمظهر بطولي إعلامياً امام الشعوب العربية، وهو أمر يبدو أن الإدارة الأمريكية لا تتحسب له، ولا تأخذه بالاعتبار، فهي تمنح قوة دعائية كبيرة للملالي الإيرانيين وتركيا، كما تمنح قبلة الحياة لتنظيمات الإرهاب التي ستنتشر في الجسد العربي والإسلامي مجدداً بذريعة الدفاع عن الأراضي العربية التي سلبتها إسرائيل.
لو كان الرئيس ترامب يريد لإسرائيل والشعب الإسرائيلي أن يعيش بأمان بالفعل، لما أقدم علي قراراته المتهورة سواء بشأن القدس أو بشأن الجولان، فمن المستحيل علي إسرائيل أن تعيش بأمان وسط العداء القائم أو الذي ستجلبه هذه القرارات، لاسيما ان فرص السلام والتسوية السياسية تتلاشي تماماً علي الأقل خلال المدي المنظور.