يقول مساعد قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء محمد علي جعفري «إن أصل مشاكل العراق اليوم ومسببها يرجع وبلا شك إلى أمريكا والسعودية». وأضاف جعفري أن «على الشعب العراقي أن يعلم تمام العلم، أنه طالما توجد في البلاد سفارة أمريكية، فإن المشاكل والمؤامرات سوف تبقى وسوف تستمر أمريكا بتحريك مرتزقتها من المخدوعين وذلك لإشعال الفتن في العراق». هذا الكلام المثير للرثاء والشفقة في معناه ومغزاه كان تعليقاً على تظاهرات الغضب المستمرة، التي تجتاح العراق منذ أوائل أكتوبر الماضي وأسفرت عن مقتل نحو 250 شخصاً.
يتناسى جعفري ونظام الملالي الإيراني أن تظاهرات العراقيين هي بالأساس ضد الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية، وبالتالي من البلاهة أن تلقي مسؤولية هذه الأوضاع على أطراف مثل المملكة العربية السعودية الشقيقة، أو حتى الولايات المتحدة لسبب بسيط هو أن إيران نفسها تتباهى على لسان قادتها ومسؤوليها بنفوذها في العراق، لدرجة أن بعض هؤلاء المسؤولين قد سبق لهم الحديث عن «احتلال» أربع عواصم عربية وسيطرة إيران عليها، ومن بينها بغداد هذه العاصمة العربية العريقة العصية تاريخياً على أي محتل غاصب.
لم يفطن جعفري إلى حجم التظاهرات وجغرافيتها الوطنية، ومن ثم ينطق بكلام يمكن أن يقبله العقل والمنطق، بل آثر التفرغ لترديد واجترار الحديث الساذج عن نظرية المؤامرة التي يعتنقها الملالي ويحيلون من خلالها كل ما يتسببون فيه من كوارث تحدث سواء للشعب الإيراني، أو لبقية الشعوب والدول التي تدخلوا فيها إلى أطراف خارجية تتآمر على هذه الشعوب والدول!
معظم المتظاهرين في العراق هم من فئة الشباب الذين فشلت كل الحكومات المتعاقبة في توفير أفق واضح لمستقبلهم، ومنحهم بارقة أمل في غد أفضل في بلد هو خامس أكبر منتج للنفط في العالم وثاني أكبر المنتجين في منظمة «أوبك» المصدر للنفط بعد المملكة العربية السعودية.
الفساد والبطالة هما طرفا الثنائية التي تشكل أزمة العراق الحقيقية، وهما ناتجان عن سوء الإدارة وفشل الحكومات وتحول العراق، هذا البلد الكبير بثقله الاستراتيجي والجيواستراتيجي، إلى بلد يسعى ملالي إيران إلى تحويله إلى مجرد سوق استهلاكي للبضائع والسلع الإيرانية!
الإحصاءات الدولية تشير إلى أن العراق يصنف كواحد من أكثر دول العالم فساداً، وفقاً لعدد من مؤشرات الفساد العالمية، والنتيجة الطبيعية لذلك هي ضياع المحاسبة والشفافية والمكاشفة السياسية.
يغيب عن نظام الملالي أن التظاهرات التي تتمركز بالأساس في مناطق الشيعة العراقيين وليس السُنة، هي رسالة بالغة الأهمية بسقوط الطائفية وشعاراتها، التي خدرّت العراقيين سنوات طويلة لم يجدوا بعدها أي تطور إيجابي في ظروفهم المعيشية اليومية.
لن نقول، كما تردد بعض التقارير الإعلامية الغربية، أن الملثمين الذين يرتدون ملابس سوداء ويطلقون النار على المتظاهرين في شوارع المدن العراقية ينتمون إلى ميلشيات شيعية موالية لإيران، ولكن يبقى السؤال الأكبر والأهم هو: من يطلق النار على الشباب العراقي؟!
الحاصل أن نظام الملالي يجني الآن ما حصدت يداها طيلة السنوات الماضية، ويستنكر غضب الشعبين العراقي والإيراني، ويرى في تظاهراتهما ضد الفساد مؤامرة خارجية، رغم أن هذا النظام ذاته قد دعم وساند تظاهرات الشعوب في دول أخرى ولم يرَ فيها سوى مطالبة بالحرية والديمقراطية في كيل بمكيالين ومعايير مزدوجة تكشف خللاً في رؤية الملالي للأمور، ورفضهم الاعتراف بالحقائق الناجمة عن تدخلاتهم في شؤون الشعوب والدول العربية، التي لا ينكرها سوى جاحد.
الشعبان العراقي واللبناني يعانيان من الطائفية ويتحملان أعباء تدخلات إيران ووكلائها على القرار السياسي في البلدين، ويجب على الملالي فهم الرسالة العراقية- الإيرانية جيداً، واستيعاب وعي الشعوب، فمشهد المتظاهرين العراقيين الذين مزقوا صورة المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي في كربلاء يستحق وقفة متأنية من الملالي والحل ليس في إلقاء الاتهامات على دول وأطراف أخرى بل في مراجعة السياسات والكف عن التدخلات، فالطائفية ليست حصناً حصيناً ولا صكاً على بياض يتيح لإيران أن تغمض عينيها عن معاناة هذه الشعوب وتواصل إملاءاتها وسياساتها التدخلية المدمرة لحياة الشعوب.
ما يحدث في بغداد وكربلاء والنجف والبصرة هو غضب شعبي عفوي من فشل السياسات الحكومية وتفشي الفساد والفقر والبطالة وغياب الخدمات العامة، كل ذلك في بلد نفطي غني بموارده وثرواته، المادية والبشرية والطبيعية، لكنه وقع أسير تحالف غير مقدس بين بعض النخب السياسية ونظام الملالي.