لم يعد مقنعاً لأحد قول البعض أن "حزب الله" يمثل قوة وطنية لبنانية، فما حدث لهذا البلد العربي من تخريب وتدمير وطمس متعمد للهوية وتغييب لكل سمات وملامح لبنان الثقافية والحضارية والتاريخية، لا يعكس سوى أنانية مفرطة ورغبة مدمرة في تحويل وطن بأكمله إلى مجرد ذراع متقدم يخوض صراعات بالوكالة لا ناقة له فيها ولا جمل!
كارثة "حزب الله" اللبناني بدأت منذ اقتحامه الحياة السياسية رغم كونه قوة ميلشياوية مسلحة لا تبدو للدولة اللبنانية الولاية الطبيعية عليها لأسباب واعتبارات يدركها الجميع، وفي مقدمتها مخزون السلاح الهائل الذي راكمته هذه القوة على مدار عقود وسنوات، حيث تلجأ إليه حين تريد بغض النظر عن أي اعتبارات تتعلق بسيادة الوطن وكل ما يرتبط بذلك من قواعد ومعايير ومتطلبات تكفل تحقق هذه السيادة والولاية الكاملة للدولة اللبنانية.
الشواهد على تضارب المصالح بين "حزب الله" والدولة اللبنانية عديدة، فالحزب وزعيمه نصر الله لا يكتفي بالتعامل بغطرسة واستعلاء مع قادة الدولة، بل يتجاهل تماماً كل الالتزامات والمسؤوليات التي يفترض أنها تمثل إطاراً لتعاملات وعلاقات لبنان مع العالم الخارجي، فنجد نصر الله يخوض صراعات كلامية ويصدر تهديدات متوالية لإسرائيل، بل ويعلن ولائه التام لأطراف خارجية ضارباً بسيادة وطنه عرض الحائط!
الحقيقة أن الخريطة السياسية اللبنانية لا تعاني تأزماً طائفياً، فالأزمة لا تتعلق بالطائفية بقدر ما ترتبط بالولاء العابر للحدود، فالطائفية كانت المعبر الذي تم من خلاله اختطاف إرادة بلد كامل لمصلحة أجندة خارجية لا علاقة لها بلبنان ولا طوائفه، انطلاقاً من أن المسألة برمتها تخضع لحسابات المصالح السياسية والأيديولوجية لأطراف اقليمية يعلمها الجميع، وما الطائفة في هذه الحالة سوى "ورقة التوت" التي يحاول المتآمرون التستر بها للتغطية على جرائمهم بحق الأوطان.
من يشكك في تبعية نصر الله وحزبه، أو يعتقد بصحة دفاعه عن لبنان واللبنانيين عليه أن يقرأ جيداً خطبه السياسية ويتمعن في نهجه الأيديولوجي، الذي يقر فيه صراحة بالحصول على تمويل كامل ـ أموال وأسلحة ـ من إيران وأنه "لا علاقة لأحد بهذا الموضوع"، كما قال حسن نصر الله صراحة في خطاب له في يونيو عام 2016، وكأنه يعيش في عالم افتراضي وليس على أراضي دولة تسبب هو وحزبه في تقويض أمنها واستقرارها بل وتخريبها وتدميرها على مدى أكثر من ثلاثة عقود!
الشواهد كثيرة على أن "حزب الله" لم يعد دولة موازية في لبنان فحسب، بل بات ـ من دون مبالغة ـ دولة فوق الدولة، فالدولة اللبنانية لم تعد تمتلك نفوذاً أو سلطة مكافئة لنفوذ الميلشيا الحزبية، بل باتت تستشعر ضعفاً واضحاً إزاء هذا النفوذ المتنامي داخلياً وخارجياً، ويكفي أن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي قد ناشد الجميع "للرأفة بهذا الوطن وإبعاده عن المهاترات التي لا طائل منها" وقال "بالله عليكم ارحموا لبنان واللبنانيين"! ويكفي كذلك أن الجميع في لبنان يحاول باستماتة التوصل إلى صيغة يكون فيها "حزب الله" جزءاً من الحالة اللبنانية المتنوعة ولبناني الانتماء" بحسب ماذكر السيد ميقاتي، وهذا يعني بوضوح أن نصر الله وحزبه لا يعمل في إطار الفسيفساء اللبناني التعددي ولا يتماس بأفعاله وأقواله مع الانتماء اللبناني!
العلة إذاً واضحة، وأعراضها الرئيسية والثانوية أكثر من أن تحصى أو يتم الجدال بشأنها حتى من قبل أعتى المتعاطفين مع الحزب وأجندته التخريبية، فالحزب الذي يزج بوطنه في علاقات صراعية ولا "يرحم" شعبه، الذي تقول تقارير اعلامية مؤسفة أن المئات منه باتوا يتجهون للهجرة غير الشرعية هرباً من الجوع والبطالة، لا يمكن أن يكون جزءاً من مكونات هذا البلد العربي، الذي طالما ارتبط اسمه بالحضارة والثقافة والفنون والتنوير.
الحقيقة أن "حزب الله" لن يكون مطلقاً جزءاً من حل المعضلة اللبنانية، فهو أساس حالة التأزم المزمنة، وهو أيضاً محرك للفساد والفوضى والدمار الذي تفشي في ربوع هذا البلد العربي، وهو سبب مباشر في الابقاء على التوتر الدائم على الحدود اللبنانية الاسرائيلية تحقيقاً لمصالح وأجندة طرف ثالث يعلمه الجميع، وبالتالي فإن الحل لا بد وأن يبدأ من نزع سلاح الميلشيا التي تسببت في هذه الحالة اللبنانية المعادية للتاريخ والجغرافيا السياسية، ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟! الجواب على هذا السؤال معروف بالنظر إلى وضوح وتقادم شبكة الامداد والتمويل بالأموال والأسلحة والعتاد، ويبقى كذلك التنفيذ بانتظار توافر إرادة دولية قادرة على محاسبة الأطراف الاقليمية المنتهكة للقوانين والمواثيق الأممية، وامتلاك القدرة على تطبيق المبادىء اللازمة لتحقيق الأمن والاستقرار الدوليين.