كنت قد تحدثت منذ فترة عن تحولات كبرى تمر بها منطقة الشرق الأوسط كإنعكاس لتحولات أكبر وأوسع يشهدها النظام العالمي الراهن، وأن التغيير يجتاح المنطقة وباتت مسلّمات وتعريفات ظلت ـ ولا تزال ـ سائدة لفترة طويلة مثل "العدو الاسرائيلي" قيد التغيير في بعض الدول بعد أن تغيرت بالفعل في مساحة ليست قليلة من المنطقة، كما أن صيغة الصراع تحولت إلى صيغة التعاون والأهم أن النظرة العربية التقليدية التي استمرت لعقود طويلة مع إسرائيل تتلاشى تدريجيا وتحل محلها نظرة طبيعية ربما لم تصل بعد إلى حد القبول التام ولكنها في الطريق لذلك، ونتحدث هنا عن المستوى الشعبي في دول عربية عدة ولا أعمم، ولا اقول أيضاً أن الأمر قد اختلف كلياً، ولكن مجرد حلحلة الصورة الذهنية لإسرائيل وإحداث حراك بهذا الشكل هو إنجاز نوعي كبير يحسب لاتفاقات السلام التي دشنتها دولة الامارات مع اسرائيل في أغسطس 2020، وتدفع بالمنطقة تدريجياً نحو كسب مساحات جديدة في إطار رحلة مضنية تستهدف نشر ثقافة التعايش والإعتدال وقبول الآخر.
والآن نقول أن قمة شرم الشيخ التي عُقدت مؤخراً بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، تمثل ـ برأيي ـ أحد أهم الأحداث التي جرت في الآونة الأخيرة، بالنظر إلى ما تنطوي عليه من دلالات ورسائل مهمة للغاية. وفي تحليل هذه الرسائل لن نلجأ إلى الخيال السياسي طالما أن بإمكاني تسليط الضوء على الواقع المليء بالمعاني؛ إذ لا ينكر أحد أن إنعقاد مثل هذه القمة بأطرافها الثلاثة لم يكن متصوراً قبل أعوام قلائل مضت، وتحديداً قبل توقيع إتفاقية إبراهيم للسلام بين الإمارات وإسرائيل في اغسطس عام 2020، ولكن الحاصل أن هذه القمة عقدت في توقيت بالغ الأهمية وفُرضت عليها قضايا إقليمية ودولية عدة للتباحث بشأنها، لتعكس واقعاً إستراتيجياً جديداً في الشرق الأوسط، بل لا مبالغة إن قلنا أنها قواعد جديدة لإدارة اللعبة الشرق أوسطية.
هذا الواقع يتعلق بخارطة جيوسياسية وجيواستراتيجية جديدة تضم العرب وإسرائيل معاً، وهذه الأطراف لا تمثل نفسها فقط بل تمثل أطرافاً اقليمية أخرى غائبة حاضرة على طاولة النقاش، فمصر بكل ثقلها ومكانتها بين أشقائها العرب، والإمارات بكل ما تحظى به من احترام وتقدير على الصُعد العربية والخليجية والدولية، عندما تتحاوران بهذا الوضوح والشفافية مع إسرائيل، فإن هذا يعني الكثير ليس على الصعيد الرسمي فقط، بل على الصُعد الشعبية كذلك، فالرأي العام العربي الذي خرج بالفعل من تأثير الإعلام الأيديولوجي التعبوي الذي يعرف الجميع مصدره وأهدافه، بات يدرك حقائق الأمور ويستشعر مصادر الخطر والتهديد الحقيقية على دولنا وشعوبنا، ويفرق جيداً بين من يسعى للسلام والإستقرار، ومن يريد إبقاء منطقتنا غارقة في نار الفتن والصراعات والأزمات تحقيقاً لأهداف معينة.
وفي ضوء ماسبق، يمكن للمراقب القطع بأهمية القضايا والملفات التي طرحت على مائدة النقاش في قمة شرم الشيخ، ويمكن كذلك القول بأن القمة ركزت على مناقشة جميع الأمور بعقول مفتوحة على مصالح الدول والشعوب. ليس جديداً القول بأن إسرائيل لاعب شرق أوسطي ودولي مهم للغاية، وليس من المنطق تجاهلها في ظل وجود حاجة ضرورية لدورها سواء بالنظر إلى معطيات البيئة الأمنية الاقليمية التي تفرض نفسها على جميع الأطراف، عرباً و إسرائيليين، ما يتطلب تعاوناً وإصطفافا إقليميًا في مواجهة مصادر الخطر والتهديدات والتحديات المشتركة، أو في ضوء الحسابات البراجماتية التي يحتاج إليها العرب في المرحلة الراهنة للحفاظ على مصالح شعوبهم من الإنجراف في ظل الإستقطاب الدولي الحاد، الذي يتطلب إمتلاك قدراً عالياً من الحذر والتأني بعيداً عن الشعارات التي طالما تسببت في تدمير مقدرات الشعوب في مراحل تاريخية سابقة.
قمة شرم الشيخ تمثل تحركاً إستراتيجيًا يصوب أخطاء الماضي القريب، ويقود المنطقة إلى إستقرار وسلام حقيقي، لأننا جميعاً رأينا كيف كانت عواقب السماح لآخرين بملء الفراغ الإستراتيجي الناجم عن إنحسار الدور الأميركي في الشرق الأوسط، بل إننا نعيش في ظل تجارب وشواهد تعكس وجود إحتمالية عالية لتكرار الأخطاء الأميركية في إدارة ملفات اقليمية مهمة مثل "النووي" الإيراني، فضلاً عن غياب أي إستراتيجية أميركية أو حتى دولية واضحة للتعاطي مع أزمات العراق وسوريا واليمن. لذا يمكن إدراك مستوى الأهمية الذي تحظى به هذه القمة، والمسألة هنا لا تتعلق بتحالفات أو مسميات أو مفاهيم توصيفية لأن مايهمنا هو جوهر الفعل وليس الشعار الذي يتدثر به، فطالما عانت منطقتنا والعالم ـ ولا تزال ـ من تحالفات لم تثبت جديتها، لتبقى العبرة بما تتوافق عليه الأطراف الإقليمية تحقيقاً لأهداف ومصالح مشتركة، لأن الوقت ليس في مصلحة أحد وهناك تغيرات متسارعة يمكن أن تهدد إستقرار وأمن الجميع ما لم تتكاتف الدول المعنية وتنسق فيما بينها للتعامل مع تحديات مشتركة وأخطار طارئة أو محتملة.
قمة شرم الشيخ تمثل بالفعل تحركاً ملائماً للتعامل مع ظروف وعواقب الإنشغال والتركيز الدولي على ما يحدث في أوكرانيا، حيث يسهم التنسيق والإصطفاف الإقليمي في درء المخاطر وردع المغامرين والحيلولة دون تكرار سيناريوهات سابقة، أي أننا بصدد جدار حماية ونسخة أولية أو تجريبية لنظام أمني إقليمي لا يستثني إسرائيل وليس موجهاً ضد طرف بعينه، ولكنه يمثل صيغة ضرورية للتعاطي مع المعطيات الإقليمية والدولية الراهنة، والأمر لا يحيد في كل الأحوال ـ بحسب قناعتي ـ عن دبلوماسية الإمارات التي تركز على بناء الجسور وفتح قنوات الحوار وتفادي الصدام والمواجهات التي يدفع تكلفتها الجميع من دون إستثناء.