في تحليل القمم الإستثنائية، كالتي عقدت مؤخراً بمدينة جدة السعودية، والتي جمعت بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والأردن والعراق، لا يمكن النظر للأمور من زاوية واحدة أو بناء رؤية أحادية، كما لا يمكن فيها التحليل بـ "الهوى" أو بالتمنى، ولكن من الضروري التعاطي مع الواقع بتجرد وموضوعية كي يمكن الخروج بإستنتاجات مفيدة في فهم ما يدور بمنطقتنا وبناء توقعات وتقديرات إعتمادا على حقائق لا خيالات وتصورات.
وفي تحليل هذا اللقاء التاريخي المهم، لا يمكن التوقف عند "المعلن"، فلزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمملكة العربية السعودية دلالاتها العميقة، حتى وإن لم تصدر تصريحات معلنة بهذا الشأن، فالحدث كاشف ودلالاته الإستراتيجية معلومة ولا تحتاج لتصريحات وبيانات، والقمة أيضاً لها أبعاد حيوية سواء من حيث إختيار جدة مكان لانعقادها، أو من حيث رمزية التواجد العربي والخليجي في هذه القمة.
الحقيقة أن من يبحث عن انجاز أمريكي في ملف الطاقة خلال هذه الزيارة، فلن يجد، ومن العبث القول بأن الرئيس بايدن قد ذهب إلى المملكة آملاً أن يعود بوعد لزيارة انتاج النفط، فمواقف القيادة السعودية في هذا الملف ثابتة ومعروفة مسبقاً، ومن السذاجة توقع تغيرها نتيجة ضغوط أو "صفقات"، وهناك وسائل وقنوات دبلوماسية عديدة للإستشكاف و"جس النبض" في مثل هذه الأحوال قبل زيارة بايدن بفترات طويلة، لذا فإننا نعتقد أنه لا مفاجآت في هذا الشأن، وأن بايدن نفسه ليس متفاجئاً من الموقف السعودي في هذا الشأن.
وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قال إن الرياض أكدت أنها تنسق مسألة إستقرار أسواق النفط العالمية في إطار منظمة "أوبك بلاس" حصراً، وأن موضوع إنتاج النفط يبحث في قمة جدة وأن أوبك بلاس تواصل عملها لتقييم الأسواق وما تحتاجه، وهذا الموقف يعرفه البيت الأبيض مسبقاً، ويعرف كذلك أنه يتعامل مع قيادة سعودية مختلفة، وان هناك مياهاً جرت في قناة العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وأن آليات إدارة العلاقات في عقود وسنوات سابقة لم تعد قائمة، بل انطوت صفحتها بشكل كبير بفعل المتغيرات الإستراتيجية التي طرأت على السياسة الخارجية السعودية، وأيضاً بفعل أخطاء الولايات المتحدة التي لم تعد قيد التحليل والتأويل، بل أقرها البيت الأبيض ضمناً في تصريحات عدة خلال الجولة الشرق أوسطية.
في ضوء ما سبق يمكن القطع بأن الفكرة الأساس في هذه الجولة إتضحت في تصريحات وأقوال كثيرة للرئيس بايدن، وتتمحور حول ملء الفراغ وتصحيح الأخطاء، وهو ماعبر عنه بقوله "لن نتخلى (عن الشرق الأوسط) ولن نترك فراغا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران. سنسعى للبناء على هذه اللحظة بقيادة أمريكية فاعلة وذات مبادئ"، ومن هنا يمكن أن يبدأ وينتهي تحليل الجولة ومتابعة نتائجها.
هناك رسائل عدة يمكن إستخلاصها من زيارة بايدن للمملكة والمشاركة في قمة جدة، أولها أن هناك مرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية ـ العربية بشكل عام، والعلاقات الأمريكية ـ السعودية بشكل خاص، وأن هذه القمة كانت بمنزلة تجديد الإلتزام بالعلاقات التاريخية، التي تجمع هذه الدول بواشنطن، تمهيداً لإعادة تعريف أسس هذه الشراكات وفق معطيات جديدة. وثانيها أن بايدن يحاول إعادة صياغة العلاقات الأمريكية ـ العربية بما يتماشى مع ظروف الواقع الجيواستراتيجي العالمي الجديد، فهناك حديث عن شراكات جديدة تصب في مصلحة دعم أهداف الولايات المتحدة سواء فيما يخص الأمن الغذائي العالمي، أو فيما يخص ضمان مرونة سلاسل التوريد وأمن إمدادات الغذاء والطاقة وتطوير مصادر وتقنيات الطاقة النظيفة ومساعدة البلدان المحتاجة من خلال المساعدة في تلبية احتياجاتها الإنسانية والإغاثية، فضلاً عن دعم الدبلوماسية بهدف وقف التصعيد الإقليمي، وتعميق التعاون الدفاعي والأمني والاستخباراتي على مستوى المنطقة، وضمان حرية وأمن الممرات المائية، وهذه في مجملها مشتركات تتقاسمها المنطقة العربية مع القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وتمثل أرضية جديدة يمكن الوقوف عليها لإستعادة الثقة تمهيداً لمناقشة القضايا الخلافية التي كانت سبباً في تعمق أزمة الثقة والتوتر الذي يخيم على علاقات الجانبين طيلة العقد الأخير.
ثالثها أن القضايا التي طرحتها القمة، ولو بشكل عابر، هي مرآة عاكسة لأهمية إستمرارية التعاون بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة، فالمشتركات عديدة وقائمة رغم كل خلاف عابر، والمصالح الكبرى المتبادلة مع واشنطن مؤكدة رغم اتساع دائرة المصالح الخليجية لتشمل دولاً وقوى دولية أخرى، بما يجعل القفز إلى فكرة الصدام والتخلي عن الشراكة الإستراتيجية التاريخية مع الولايات المتحدة تصور عبثي لا وجود له سوى في خيال من يردده.
رابع هذه الرسائل تتعلق بالمكسب الإستراتيجي الأهم في زيارة بايدن للسعودية، وهو كسر حلقة الجمود في علاقات الشريكين الكبيرين، وإطلاق الجهود لإعادة هندسة التحالف والشراكة التاريخية بما يناسب الواقع الإستراتيجي الراهن للمملكة، ويحقق مصالح الطرفين في إطار صياغة معادلة جديدة تطوي صفحة "النفط مقابل الأمن" التي ظلت تحكم علاقات البلدين طيلة أكثر من سبعة عقود مضت.
خامس هذه الرسائل يتعلق بأسس إدارة علاقات الشراكة الجديدة بين واشنطن وحلفائها الخليجيين والعرب، وهي أسس ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحوار المتبادل وتعلي من أهمية الإستماع لوجهات نظر الشريك الخليجي والعربي، وأخذها بالاعتبار، فلم تعد الولايات المتحدة هي من يضع المعايير بمفردها، بل هناك شركاء آخرون يمارسون دورهم في علاقات الشراكة بشكل فعلي، وهذا ما حدث حرفياً في نقاشات بايدن مع ولي العهد السعودي الشاب الأمير محمد بن سلمان، الذي فند خلال اللقاء ما تعتبره واشنطن أخطاء سعودية، وهي بالأخير قائمة على تقديرات وإحتمالات وإستنتاجات، فيما يتجاهل الجانب الأمريكي مناقشة أخطائه المؤكدة في العراق ودول أخرى، فضلاً عن طرح موضوع "القيم" ومناقشته بشكل غير مسبوق، ووفق منطق موضوعي وزاوية طالما تجاهلتها الدبلوماسية الأمريكية.
بلا شك فإن الرئيس بايدن استمع إلى صوت خليجي وشرق أوسطي مختلف في جدة، ونعتقد أنه لم يفاجىء بما حدث، ولكن نقطة القلق الوحيدة في هذا الشأن هو أن يخلط البيت الأبيض بين أولوية العلاقات مع الولايات المتحدة وبين موقع علاقات الدول الخليجية والعربية مع روسيا والصين، حيث يزعجني تصريح أدلى به مسؤول وصف بأنه رفيع المستوى في البيت الأبيض قال فيه إن واشنطن تعتقد أن عددا كبيرا من دول الشرق الأوسط، التي خططت في السنوات الأخيرة لتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين، قد "فقدت الرغبة في ذلك"، وأضاف المصدر، في تصريح صحفي: "سمعنا من كل عاصمة في هذه المنطقة، أن خيارهم الأول وأولويتهم هو الولايات المتحدة. ونحن ملتزمون باتباع هذا المسار وإيجاد مجالات للتعاون"، ووفقا له، قبل عام ونصف، كان "التحول نحو روسيا وحتى الصين في اتجاهات كثيرة"، ملحوظا في العديد من عواصم الشرق الأوسط. وقال: "تم تعليق كل ذلك حاليا، وفي كثير من الحالات، بشكل محدد جدا - لا يمكنني التحدث عن ذلك بالتفصيل، ولكن تم إخماد هذا التوجه".
هذا التصور خاطىء تماماً، فلن تتخلى الدول الخليجية والعربية عن علاقاتها الإستراتيجية المهمة مع بكين وموسكو، ولن تصبح الولايات المتحدة مجدداً هي الشريك الإستراتيجي الوحيد لهذه الدول، والأمر هنا لا يتعلق بالأخطاء الأمريكية فقط، بل يرتبط حصرياً ـ وهذا هو الأهم ـ بالحقائق الجديدة في العلاقات الدولية، وتوازنات القوى والمصالح التي تفرض نفسها على الجميع، بما فيهم الولايات المتحدة نفسها، التي لا يمكنها التخلي عن التعاون مع الصين ولا إدارة وجهها بشكل كامل لبكين، ولا حتى موسكو رغم تداعيات أزمة أوكرانيا.