هناك استراتيجيات عديدة تطرح حين يتعلق الأمر بكيفية التصدي للتهديدات المرتبطة بوكلاء إيران وأذرعها الإرهابية في الشرق الأوسط، وهل الضربات العسكرية المكثفة تعد السيناريو الأفضل لتحييد هذه التهديدات أم استهداف قيادات هذه الأذرع وقادتها من المستويين الأعلى والأوسط؟
بلاشك أن دراسة حالة هذه الميلشيات طيلة السنوات الفائتة تفضي بنا إلى استنتاجات عدة، أولها أن هذه الميلشيات الإرهابية ليست على الدرجة نفسها من الخبرة والتنظيم والتسليح وبالتالي القدرات العملياتية والكفاءة القتالية، حيث يمكن تقسيمها إلى فئات أهمها ميلشيا "حزب الله" وهي الذراع الإيراني الأقدم والأبرز والأخطر في حقيقة الأمر، وتمتلك قدرات عسكرية تفوق نظيراتها من الأذرع الإرهابية في المنطقة، وثاني هذه الاستنتاجات أن أذرع إيران الميلشياوية التي تعمل تحت مظلة ما يعرف بمحور المقاومة ليس على درجة واحدة من التأثير الاقليمي، ولا الأهمية بالنسبة لإيران، وربما تكون أقلها أهمية حركة "حماس" الإرهابية، التي توظفها طهران في إطار الصراع الجيواستراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل ويمتلك الطرفان قاعدة مصالح مشتركة ولكنهما يختلفان أيديولوجياً، ما يجعل حرص إيران على مصير حركة "حماس" الإرهابية هو الأقل مقارنة بباقي الأذرع، ولكن في المقابل نجد أن إيران تحاول قدر المستطاع الحيلولة دن خروج "حماس" الإرهابية من معادلة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لأن حركة "حماس" تمثل الضمانة الأساسية لدور أو نفوذ إيراني في القضية الفلسطينية.
في الأجابة عن السؤال الأساسي الخاص بفاعلية الضربات أو سياسة الاغتيالات، يمكن القول بأن الضربات العسكرية تبقى محدودة التأثير على الأذرع الإرهابية لإيران طالما بقيت البنى التحتية والقدرات العسكرية لهذه الأذرع بمنأى عن الضربات، ويمكن القول بأن تدمير قطاع غزة بالكامل لا ينطوي على أثر كبير بالنسبة لحماس الإرهابي مقارنة بالوصول إلى مقراتها وبناها التحتية وشبكة الانفاق التي تمثل عنصر الردع الأقوى لديها. وقد سبق أن تسبب "حزب الله" اللبناني في إحداث دمار كامل للبنان وخرج مدعياً النصر الإلهي والاستراتيجي لمجرد بقاء قيادته على قيد الحياة رغم كل الدمار والخسائر البشرية والمادية التي تحققت.
بالنسبة للميلشيات والأذرع الإيرانية تبقى سياسة الاغتيال الأكثر تأثيراً وفاعلية وعنصر الردع الأقوى ضد هذه الميلشيات الإرهابية، حيث يمكن القول بأن هذه الكيانات الارهابية تدار بشكل كبير من خلال قيادة الرجل الواحد، وهو هنا قد لا يكون بالضرورة فرد واحد بل مجموعة ضيقة من الأفراد والقادة، الذين يمتلكون سلطة القرار والحل والعقد في قرارات الميلشيا الإرهابية، لاسيما أن هناك عادة صراعات شرسة للغاية بين القيادة للوصول إلى كرسي القيادة، وبالتالي فإن استهداف هرم السلطة على المستويين السياسي والعسكري يمثل كابح قوي لوجودها، وقد يؤثر سلباً في قدراتها العملياتية بشكل كبير، مثلما حدث في حالة الحرس الثوري الإيراني الذي تأثرت قدراته بشكل كبير بمقتل قاسم سليماني، حيث تتشكل مثل هذه الكيانات وفق إطار يتمحور حول شخصية وكاريزما "القائد"، الذي يحيط نفسه عادة بمجموعة من المؤيدين والمناصرين ويحرص على ألا يكون من بينهم من يستطيع منافسته في القيادة أو الاستحواذ على دعم المرشد الأعلى.
تنطوي سياسة الاغتيالات أيضاً على عامل ردع ذا تأثير بالغ الخطورة بالنسبة لإيران نفسها وليس للوكلاء فقط، فهي تعكس القدرات الاستخباراتية والتقنية للخصم، وتجسد قدرته على اختراق الأنظمة الأمنية المحكمة، واستهداف الشخصيات الرفيعة داخل النظام الإيراني نفسه أو وكلائه، ما يفتح الباب بالتبعية إلى اثارة مخاوف لا يمكن تجاهلها بشأن الهدف التالي، واحتمالية استهداف شخصيات أعلى في إيران أو وكلائها، وهو ما يمكن أن يتسبب في انهيار هذه الكيانات التي تعتمد بشكل قوي على الدعاية والترويج لنفسها كقوة مكافئة للقوى الاقليمية والدولية التي تصفها دائماً بالظلم والاستكبار وغير ذلك من شعارات وعبارات تعبوية.
الاغتيالات المتواصلة للقيادات البارزة لدى الأذرع الميلشياوية الإرهابية أيضاً من شأنها أن تجبر هذه الكيانات على الرد، ومن ثم تلقي الرد المضاد، حيث يصعب عليها مواصلة ترديد عبارات على شاكلة "نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين"، ما يعرضها لفقدان المصداقية في عيون أنصارها ومؤيديها الطائفيين، وكذلك المتعاطفين معها الذي يكتشفون بمرور الوقت زيف ادعاءات هذه الكيانات الإرهابية وعدم قدرتها على خوض مجابهات عسكرية حقيقية. وبلاشك أن الرد المضاد في بعض الأحيان، كما هو حاصل الآن، يمثل السيناريو الأكثر خطورة بالنسبة لإيران ووكلائها، لأنهم يدركون أن هناك احتمالية عالية لتلقي ضربات قوية أمريكية ـ إسرائيلية مشتركة، وربما تشارك فيها بعض الأطراف الأطلسية التي يتفاقم لديها الضيق من ممارسات إيران ووكلائها في منطقة الشرق الأوسط، وهو السيناريو الذي قد يقوض النفوذ الإيراني إقليمياً، وربما يصل إلى حد التأثير في مصير النظام نفسه، ولذلك فإنه رغم كل الشعارات والتهديدات التي تصدر عن قيادات النظام الإيراني، فإن من المؤكد أنه لا أحد من هؤلاء يرغب في خوض صراع مفتوح سواء مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.
وبلاشك كذلك أن ما يفعله حزب الله من استفزازات لإسرائيل ليس دعماً لحماس الإرهابية بل محاولة لتقاسم التعاطف العربي والإسلامي معها باعتبارها حركة مدافعة عن الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية، ولكن ليس من بين أهداف نصر الله ورفاقه مطلقاً الخروج من الدور المرسوم وتوسيع دائرة الصراع بما يفتح الباب أمام احتمالات نهاية حزب الله، حيث تدرك إيران جيداً أن إسرائيل تعيش لحظة استثنائية في تاريخها وأنها على استعداد لتكرار سيناريو غزة في جنوب لبنان، وهي ليست على استعداد مطلقاً للمجازفة بكل أذرعها من دون تحقيق المكاسب الاستراتيجية التي طالما سعت إليها منذ عقود طويلة مضت. لذلك سياسة الإغتيالات المتبعة حاليا ذات مفعول طويل الأمد يمكن إعتمادها بشكل رئيسي.